drawas

454x140 صوت واضح

رجل مِن اليمن

محمد سالم باسندوة حضرت مؤخراً حلقة نقاشية عن التطورات الأخيرة في اليمن، وكان القلق يلف جميع الحاضرين، يمنيين وغير يمنيين، ووجدتني بعد انتهاء الحلقة أفكر في مستقبل هذا الجزء العزيز والمهم من الوطن العربي وأنتهي إلى حاجته الملحة إلى مخزونه العتيد من القيادات المخلصة التي شهد لها الجميع بالوطنية والكفاءة والنزاهة، وإذا بذهني يقفز على الفور إلى محمد سالم باسندوة، رئيس الوزراء اليمنى السابق الذي اختار أن يقدم استقالته عقب سيطرة الحوثيين على صنعاء يوم 21 سبتمبر، انطلاقاً من حرصه على تسهيل التوصل إلى اتفاق بين «أنصار الله» ورئيس الجمهورية، وهكذا كان اختفاء هذا الرجل - إلى حين إن شاء الله- من الساحة السياسية الرسمية هو أول الخسائر الفادحة التي ترتبت على سقوط العاصمة صنعاء بأيدي الحوثيين، وإن كانت الخسائر التي لحقت ببنية الدولة اليمنية ومؤسساتها أنكى وأشد.

عندما كنت طالباً بالسنة الثانية من الجامعة درس لنا الأستاذ الجليل الدكتور محمد زكى شافعي مادة النقود والبنوك، وكان مما لفتني في محاضراته أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق، غير أنني اكتشفت لاحقاً أن هذه القاعدة تنطبق بدرجة أوضح وأشد على «سوق السياسة»، فالانتهازيون والفاسدون هم الأكثر قدرة على البقاء في لعبة السياسة، أما الشرفاء والأكفاء فينأون بأنفسهم عن هذه اللعبة، ولباسندوة تاريخ طويل من النضال والعمل من أجل وطنه، بل إن شخصيته ودوره يجسدان مسيرة اليمن نحو الاستقلال والوحدة والتنمية، فهو جنوبي المولد غير أن عطاءه امتد في كافة أرجاء اليمن ونضاله جمع بين ما هو إعلامي وما هو سياسي وما هو عسكري، فأصدر في عدن صحيفتين أسبوعيتين عطلتهما السلطات البريطانية إبان الاحتلال لاعتراضها على محتواهما التحرري، وكان من مؤسسي «حزب الشعب الاشتراكي» في 1962 وعضواً في قيادته، ثم خطا خطوة نوعية في نضاله من أجل الاستقلال بعضويته في قيادة «جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل» منذ إنشائها عام 1966 وأشرف على أحد تنظيميها الفدائيين في عدن، وكان قد انتقل إلى الشمال منذ 1965 للانضمام إلى حركة الكفاح المسلح التي ساهم في دعمها دبلوماسياً من خلال عرض قضية الجنوب والدفاع عنها أمام الأمم المتحدة.

تولى باسندوة مناصب رسمية متنوعة مع أنه كان عازفاً عنها، لكنها أكسبته خبرة بالغة التنوع، فهو وزير للشؤون الاجتماعية والعمل والشباب، ووزير للتنمية وللإعلام والثقافة والخارجية في حكومات مختلفة، فضلاً عن رئاسته الجهاز المركزي للتخطيط، وعمله مندوباً دائماً لليمن لدى الأمم المتحدة، وتوليه مناصب استشارية رئاسية مع أكثر من رئيس. ولعل أهم مواقعه الاستشارية كان مع الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي صاحب البصمة المضيئة في تاريخ اليمن المعاصر.

وليس من معنى لاستعانة حكومات عديدة وثلاثة رؤساء به إلا الكفاءة، ومع ذلك فإن المناصب لم تستعبده أبداً بدءاً من طلبه إعفاءه من منصب المندوب الدائم لليمن لدى الأمم المتحدة وانتهاءً باستقالته الأخيرة من رئاسة مجلس الوزراء.

غير أن الأهم من ذلك كله هو نزاهته التي يفخر بها دوماً رجلنا وكل من يعرفه ويقدره حق قدره. ويتسق مع هذا أن القرب من السلطة لم يكن يوماً ضمن أهدافه؛ فقد استقال في عام 2000 من حزب «المؤتمر الشعبي العام» الحاكم وانضم للمعارضة كمستقل، لذلك لم يكن غريباً أن تختاره قوى المعارضة رئيساً للجنة الحوار الوطني التي شكلتها في مايو 2009.

كذلك كان منطقياً أن ترشحه القوى ذاتها لرئاسة أول حكومة بعد تنحي على عبدالله صالح، وكانت مرحلة رئاسة الحكومة فصلاً جديداً ورائعاً في كتاب نضاله. فقد تكونت من فريقين متعارضين استطاع أن يجعل منهما فريقاً واحداً يُبحر به في أنواء عاتية من أجل استقرار الوطن وعافيته، ويحقق الإنجازات في ظروف بالغة الصعوبة.

ورغم صمته الحالي فإني أناشده أن يستأنف نضاله العنيد، على الأقل من أجل سفينة الوحدة التي تتقاذفها أمواج المصالح الأنانية ورؤى من شأنها تدمير اليمن الموحد والإضرار البالغ بالأمن الخليجي والعربي.

 

# مدير معهد البحوث والدراسات العربية - القاهرة

كاريكاتير