بدت انتفاضة المهمّشين في تونس، يوم أمس، أكبر من كل محاولات الاحتواء، فالقرارات الحكومية الهادفة إلى تهدئة الغضب الشعبي لم تجدِ نفعاً، واستمرت التحركات الاحتجاجية في القصرين، لا بل تمدّدت إلى معظم المناطق في غرب البلاد وجنوبها، حتى وصلت إلى قلب العاصمة، مثيرة في الوقت ذاته مخاوف من توظيف الحراك الاجتماعي للتخريب والإرهاب.
وبرغم الإجماع الوطني على أحقّية المطالب التي خرج من أجلها الشباب الغاضب إلى الشوارع، إلا أن اللافت للانتباه أن أحزاباً ومنظمات وطنية تونسية باتت تنظر بشك وريبة إلى حركة الاحتجاج، التي تحوّل الكثير منها إلى نهب وإجرام منظم، وسط مخاوف من تحرّك بعض الخلايا الإرهابية في غرب البلاد وجنوبها، ما دفع وزارة الداخلية إلى إعلان حظر التجوّل على امتداد الأراضي التونسية، ابتداءً من الساعة الثامنة مساءً وحتى الخامسة صباحاً، في محاولة لعزل العناصر المخرّبة، واستعادة السيطرة على الوضع الأمني المهدد بكل الاحتمالات السيئة.
وفيما انتظر التونسيون، الساعة الثامنة مساءً، خطاب الرئيس الباجي قايد السبسي بخصوص الأزمة، لرصد بعض من تفاصيل المشهد العام في البلاد، فإنّ الخطاب الرئاسي لم يكن ليستحق كل ذلك الانتظار، إذ لم يخرج سوى بمواقف عامة من قبيل «تونس بخير» و «الأشرار لن ينجحوا».
هكذا صار الكل يتحدث عن «الغول» من دون أن يجرؤ على تسميته، أو إعطاء أدلة على وجوده أصلاً، في وقت تتساءل أطراف كثيرة عن صمت وزارة الداخلية، وعجزها عن توضيح الحديث عن مؤامرة على مطالب الشباب، بالرغم من أن الأدلة متوفرة في كل ساعة على وجود شبكات منظمة للسرقة والنهب واستهداف مؤسسات الدولة.
ولم تنجح الإجراءات الحكومية الأخيرة التي أعلن عنها المتحدث الرسمي باسم الحكومة التونسية خالد شوكات عن تشغيل خمسة آلاف شخص، وبعض التسهيلات التنموية الأخرى، في تهدئة الوضع، ليس فقط لأن الشباب الغاضب بسبب غياب العدالة والشفافية والتنمية في الجهات الداخلية لم يعد يجد مبرراً لتصديق هذه الوعود التي تذكّره بوعود سابقة قبل خمس سنوات، بل بسبب غموض الوعود نفسها على مستوى التطبيق، وتضارب تأويلات أعضاء الحكومة بشأنها.
كل ذلك جعل القرارات الحكومية تبدو بالنسبة إلى الناشطين الغاضبين مجرّد «إجراءات مستعجلة ومرتبكة وغامضة، ولا تمثل سوى علاج موضعي مؤقت لمشكلة عميقة في تونس، وهي الفساد والمحسوبية» كما قال أحد قادة الحراك الشبابي في القصرين لـ «السفير» في اتصال هاتفي، مذكّراً بأن الرئيس التونسي المخلوع «زين العابدين بن علي كان قد وعد بتشغيل 400 ألف شخص قبل إطاحته، وكنا نعرف أنه يكذب».
وحتى ليل يوم أمس، كانت هناك مجموعات شبابية كثيرة تستمر في الاعتصام والاحتجاج السلمي للمطالبة بالحق في الشغل والتنمية والعدالة الاجتماعية والحوكمة الرشيدة، لكن «الاحتمالات السيئة» لتطورات الحراك الاجتماعي بدأت تظهر للعيان، وأصبحت أكبر من نبل شعارات القضية الأصلية.
الأحزاب والمنظمات المدنية أعلنت رفضها لتحول الحراك الاحتجاجي إلى أعمال إجرامية، وصار كثيرون يتحدثون عن «مؤامرة ضد الثورة وضد إرادة الشعب»، لكن المشكلة الأكبر، في هذا السياق، أن كل طرف سياسي بات يحاول توظيف الحديث عن «المؤامرة» ضد خصومه، فالإسلاميون («حركة النهضة») المشاركون في الحكم يتهمون اليسار بالعمل على إسقاط الحكومة، وتأجيج الفوضى والانفلات، في حين أن اليسار ممثلاً في «الجبهة الشعبية» (ائتلاف من عدة أحزاب يسارية) يتهم الإسلاميين والمهربين بتخريب الثورة لوراثة حزب «نداء تونس» الفائز بأكبر عدد من مقاعد مجلس النواب.
وفي هذا الإطار، قال رئيس كتلة «الجبهة الشعبية» في مجلس النواب أحمد الصديق في تصريح لـ «السفير» إن ممثلي الكتلة انسحبوا من اجتماع مكتب مجلس نواب الشعب مساء أمس احتجاجاً على «التركيز على المخاطر الأمنية من دون التطرق إلى أسباب الأزمة».
وبين الطرفين، ثمة اتهامات خطيرة، ولكن من دون أدلة واضحة، على تورّط أطراف أجنبية في العمل على إسقاط التجربة الديمقراطية في تونس، عبر أطراف تونسية، وعن طريق أموال طائلة تنفَق على تخريب الثورة.
وبصرف النظر عن صحة هذه الاتهامات من عدمها، فإن ما يمكن الحديث عنه هو تورط مجموعات مرتبطة بكبار المهربين في استئجار منحرفين لمهاجمة المقارّ الأمنية والحكومية.
وتمكنت قوات الأمن والجيش يوم أمس من ضبط عشرات الأشخاص المتورطين في أعمال النهب المنظم.
وسألت «السفير» العميد المتقاعد من الجيش الوطني مختار بن نصر، الذي كان متحدثاً رسمياً باسم الجيش التونسي بعد الثورة، عن سر صمت الدولة إزاء هذه المجموعات، وعمّا إذا كانت عاجزة عن توضيح مثل هذه التفاصيل الخطيرة للرأي العام، فأكّد أن «لدى أجهزة الأمن والجيش كل المعلومات التي تفيد بوجود اختراقات إجرامية لحركات الاحتجاج، ومحاولات لإنهاك المؤسستين الأمنية والعسكرية لخلق ثغرات أمنية»، وذلك بغرض تأمين تحرّك الخلايا الإرهابية ومجموعات المهربين، لكنها تفضل تقديم ذلك إلى القضاء بدل التوظيف السياسي»، لافتاً إلى أن «كل من يتم ضبطه يجب أن يتحمل مسؤوليته أمام القضاء.
وثمة أحداث يومية تؤكد وجود مؤامرة على الحراك الاحتجاجي، وتتمثل في أعمال إجرامية منظمة تستهدف مقارّ الأمن والديوانة (مصالح «القمارق» حيث توجد مضبوطات التهريب)، و «قباضات المالية» (إدارة الضرائب حيث توجد أموال وممتلكات واحتكارات التبغ)، بالإضافة إلى أعمال نهب منظمة لمستودعات المضبوطات لدى الدولة والبلدية والبنوك والمؤسسات التجارية.
بالتوازي مع ذلك، شهد غرب تونس محاولة خلية إرهابية - محسوبة على تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب العربي» - نقل مؤونة ومعدات حربية ومتفجرات إلى جبل القصرين، فيما قال المتحدث الرسمي باسم الجيش التونسي بلحسن الطرابلسي إن دوريات عسكرية ضبطت مجموعة مهربين تونسيين وليبيين بصدد تبادل كمية كبيرة من البضائع في المنطقة الصحراوية العازلة بين تونس وليبيا، مشيراً إلى أن الدورية العسكرية تعرضت لإطلاق نار من المهربين مما جعلها ترد على مصادر النيران، فتمكنت من السيطرة على الوضع، وتوقيف عدد من الأشخاص، بينهم شخص يحمل وثائق ثبوتية سورية.
ويبقى السؤال: هل تم إغراق المطالب الثورية المتجددة للثورة التونسية في الأعمال الإجرامية؟
يعتقد أمناء «الجبهة الشعبية»، التي تضم 11 حزباً يسارياً، والتي تستحوذ على 15 مقعداً في مجلس النواب، أن الحركة الاحتجاجية مستمرة، مؤكدين أنهم يساندونها من حيث المبدأ، مع رفضهم التام والواضح لكل أشكال العنف.
وبالتوازي مع ذلك، أصبح «الاتحاد العام التونسي للشغل»، النقابة العمالية التي تعد أقوى من أي حزب سياسي في تونس، والفائزة بجائزة نوبل للسلام، يتخذ مسافة من هذه التحركات الاجتماعية.
وفي هذا الإطار، حذّر الأمين العام المكلف بالإعلام في اتحاد الشغل سامي الطاهري من وجود «معلومات أكيدة من ساحة الأحداث في القصرين وتالة وحيدرة تشير إلى وجود أموال توزع على عدد من الشباب فى هذه المناطق من أجل التصعيد والحرق والتخريب».
الآن، يتحدث الجميع عن مؤامرة على مطالب الشباب المهمش والمحروم وعن ضحايا التفاوت الجهوي والفساد الإداري والحكومي، غير أن المشكلة تكمن في أن الجميع يتهم الجميع، فاليساريون يتهمون الإرهابيين، والإسلاميون يتهمون غلاة اليسار والمهربين، ومناضلو حقوق الإنسان يتهمون الأحزاب والمال الفاسد، وآخرون يذهبون إلى اتهام التونسي الهارب إلى ليبيا أبو عياض أو حتى زعيم تنظيم «الدولة الإسلامية» أبو بكر البغدادي.
وامّا وزارة الداخلية، فتنشر يومياً أرقاماً مذهلة عن توقيف عشرات الأشخاص المسلحين بسيوف وسكاكين تبدو قد صُنعت لتوها من أجل هذه اللحظة، لكنها لا تقول شيئاً للرأي العام، في حين لا يجد البعض حرجاً في اتهامها بسحب عناصرها من الشوارع والساحات العامة لتفادي المواجهات مع الشباب، خصوصاً أن نقاباتها منخرطة في اعتصام مستمر منذ أكثر من عشرة أيام، ولا ترغب في أن تجد نفسها في مواجهة دامية مع الشباب أو الرأي العام، خصوصاً مع احتمال سقوط قتلى أو مصابين قد يتحولون إلى شهداء ورموز جدد.
# السفير
المقالات الاقدم:
- معتقل يمني في "غونتانامو" يرفض مغادرة السجن بعد قرار الإفراج عنه - 2016/01/23
- اللاعب اليمني سالم موسى يوقع مهمَّة احترافية مع نادي مدينة عيسى البحريني - 2016/01/23
- اللاعب اليمني سالم موسى يوقع مهمَّة احترافية مع نادي مدينة عيسى البحريني - 2016/01/23
- صناعة الكراهية - 2016/01/23
- روسيا اليوم: هل يرفع صالح الراية البيضاء؟ - 2016/01/22
أحدث المقالات - من جميع الأقسام:
- 20 غارة إسرائيلية على مناطق مختلفة جنوب لبنان - 2025/03/07
- السودان يرفع دعوى ضد الإمارات في محكمة العدل الدولية - 2025/03/06
- حماس تعلن استعدادها للتنازل عن "حكم غزة" مقابل شرط وحيد - 2025/02/28
- الجيش السوداني يواصل تقدمه في الخرطوم والبرهان يعلن رفضه للحلول الخارجية - 2025/02/17
- مصر تستضيف قمة عربية طارئة بشأن تطورات القضية الفلسطينية - 2025/02/09
مقالات متفرقة:
- وصول ضباط من قوات المارينز الأمريكية إلى محافظة المهرة جنوب اليمن - 2021/04/18
- جماعة الحوثي تعلن أسر العشرات من القوات الحكومية في مأرب والضالع - 2020/04/29
- التونسيون يدلون بأصواتهم في ثالث انتخابات برلمانية منذ ثورة 2011 - 2019/10/06
- السودان.. توقيع اتفاق بين البرهان وحمدوك وقوى الحرية والتغيير تعلن رفضها - 2021/11/21
- مقتل ضابط شرطة في اعتداء جديد على مبنى الكونغرس الأمريكي - 2021/04/03
المقالات الأكثر قراءة:
- منظمة الصحة العالمية : 10 آلاف قتيل و60 ألف جريح حصيلة حرب اليمن - 2018/12/10 - قرأ 127116 مرُة
- اليمن .. معركة جديدة بين قوات هادي والحراك الجنوبي في شبوة - 2019/01/09 - قرأ 26806 مرُة
- غريفيث لمجلس الأمن: هناك تقدماً في تنفيذ اتفاق استوكهولم رغم الصعوبات - 2019/01/09 - قرأ 26098 مرُة
- تبادل عشرات الأسرى بين إحدى فصائل المقاومة اليمنية والحوثيين في تعز - 2016/06/01 - قرأ 20465 مرُة
- المغرب يكشف عن "تغير"مشاركته في التحالف - 2019/01/24 - قرأ 17775 مرُة