drawas

454x140

الحكومة والمعارضة.. اغتصاب العالم باللغة

حسين الوادعيالكلمات أيضا تصاب بالتضخم والإفلاس!

في عام 1979 كتب أحمد بهاء الدين مقالا بعنوان "كلمات فقدت سمعتها في حياة لغتنا الجميلة" تحدث فيه عن الكلمات التي فقدت سمعتها بسبب سوء الاستخدام .

استهلكت أنظمة الخمسينات والستينات كلمة "الوحدة" وحولتها من كلمة تتحلق حولها أحلام الجماهير إلى كلمة بلا معنى لا تثير نقاشا ولا تجتذب اهتماما.

حدث مثل هذا لكلمات أخرى مثل الاشتراكية والديمقراطية.

استمرت السلطات تتعامل مع هذه الكلمات بطريقة إصدار شيكات بدون رصيد، أو إصدار عملات بدون مراعاة غطاء الذهب فكان أن فقدت "قيمتها التداولية" ولم تعد قادرة على "شراء" أي تأثير.

أفلست تلك الكلمات لأنها تحولت إلى شعارات للتغطية على الواقع البائس.

كلما تفكك المجتمع وتشظى يُرفع شعار "الوحدة" وتُدبج القصائد وتُلحن الأناشيد للتغني بالوحدة المجيدة. وكلما أوغلت السلطة في القمع برزت كلمة "الديمقراطية" لتتصدر الصحف ووسائل الإعلام بينما السجون ملأى بالمعارضين. الآن وهنا لا زالت المزيد من الكلمات تفقد سمعتها في لغتنا الجميلة!

لنبدأ بمفردة "الثورة". لم تفقد كلمة سمعتها في السنوات الأخيرة مثل كلمة "الثورة".

لقد رفعت التيارات العربية من أقصى اليمني إلى أقصى اليسار شعار الثورة. من بيانات أسامة بن لادن وأيمن الظواهري إلى الإخوان والسلفيين و ناشطي الإعلام الاجتماعي وشباب الساحات.

صارت كلمة الثورة غطاء لكل شيء: من إسقاط النظام إلى إسقاط الدولة إلى مهاجمة المعسكرات ونهبها إلى اقتحام المدن وتفجير البيوت وخطف الصحفيين وإغلاق وسائل الإعلام وتجنيد الأطفال وتفكيك النسيج الاجتماعي. أصبحت الثورة بالنسبة للإخوان في عهد مرسي هي الاستيلاء على الدولة وأخونة المجتمع وتهميش كل القوى المعارضة. ثم صارت الثورة في عهد السيسي مرادفة للدولة البوليسية وتكميم الأفواه وتدجين الإعلام وعسكرة المجتمع والعقول.

وصارت الثورة بالنسبة لتحالف الحوثيين- صالح في اليمن غطاء لإسقاط الدولة وتطييف الوظيفة الحكومية وتدمير النسيج الاجتماعي وبعث الطائفية السلالية والمذهبية وتوريط الوطن في حرب عبثية مع العالم "حتى يوم القيامة" حسب التصريح الأخير للزعيم الحوثي؟

قبلها ارتكب حزب الإصلاح اليمني مع حلفائه العسكريين والقبليين مختلف الفظائع في 2011 تحت شعار "حماية الثورة" من خطف لشباب الناشطين وتعذيبهم إلى إسقاط المعسكرات وقتل الجنود إلى إشعال المواجهات العسكرية والحروب الصغير هنا وهناك.

عندما اكتسح داعش محافظات العراق في 2013 استمرت قناتي العربية و الجزيرة لأكثر من شهر في تصوير المشهد باعتباره "ثورة العشائر السنية ضد الحكومة الطائفية في بغداد!". وكلما وقعت مدينة سورية في قبضة جماعة إرهابية كانت نفس القنوات تتحدث عن "سيطرة الثوار" على المدينة الفلانية أو القرية العلانية. الكلمات تتلف من "الإجهاد اللغوي" كما قال احمد بهاء الدين. ولم تصب كلمة بالتلف مثل كلمة "المقاومة".  أليست المقاومة مرادفة "للاحتلال الداخلي" الذي يقوم به حزب الله في لبنان.

أليست المقاومة هي الشعار الذي يحاصر المدنيين في مضايا ويقتلهم في حلب وأدلب وريف دمشق؟

ألم تستخدم حماس شعار المقاومة لإشعال حرب عبثية مع إسرائيل في 2014 قُتل فيها 2000 مدني ودُمر 16000 منزل؟ في نفس الوقت الذي كانت حماس تقوم بجرائم حرب إضافية ضد الفلسطينيين المعارضين فتختطف وتعتقل وتعذب وتقتل بلا محاكمة؟

إذا أردت أن تصل إلى السلطة في بلدك لا تذهب إلى صناديق الاقتراع فذلك طريق طويل. إرفع شعار المقاومة واحتكر الحديث باسم الشعب وحول كل معارضيك إلى عملاء للعدوان!

لنأت إلى الكلمة الأسوأ سمعة بين ركام الكلمات المنكوبة: "الانتصار"!

ألم يعلن عبد الناصر الانتصار بعد هزيمة 1967 بينما الطريق أمام الجيش الإسرائيلي كانت مفتوحة إلى القاهرة؟

ألم يعلن صدام حسين الانتصار على الحلفاء بعد حرب 1991 وكان العراق مدمرا ومحاصرا وجائعا؟

وهل ننسى إعلان النصر الشهير لحزب الله بعد حرب تموز 2006 عندما أعلن الانتصار على إسرائيل بينما مدن وقرى لبنان تترنح تحت رائحة الموت وغبار الخراب نتيجة الغارات الإسرائيلية؟

ألم "تنتصر" حماس بنفس الطريقة على إسرائيل في 2014 بغد أن أصبحت غزة أكواما من الخراب والمآتم؟

وهل ننسى الاحتفال اليومي للحوثيين بالانتصار على "الداخل والخارج" بينما اليمن يتشظى ويسير بخطى بطيئة نحو الانهيار والمجاعة؟

ما الذي يحتاجه المستبد العربي لكي يعلن انتصاره؟

أشياء بسيطة جدا: هزيمة مدوية وأكوام من الجثث وجبال من الأنقاض والخرائب!

ساعتها تصبح الآلة الإعلامية مستعدة لعزف النشيد الجنائزي للانتصار.

تحولت اللغة العربية إلى أداة اغتصاب للواقع. إلى قضيب حديدي يضرب وينتهك ويهدد.

عندما فقدت كلمات" الوحدة" و"الديمقراطية" و"الاشتراكية" سمعهتا كانت الدولة هي اللاعب الرئيسي باللغة.

لكن الآن وبعد تراجع قوة الدولة وصعود الأحزاب المسلحة والقوى الطائفية والدينية صارت "المعارضة" تنافس السلطة كلاعب رئيسي في اغتصاب العالم باللغة وتجريد الكلمات من مضامينها.

علاقتنا باللغة تشبه علاقتنا بالنفط.

استمرت الدول النفطية في إغراق السوق بالنفط متجاوزة قوانين العرض والطلب حتى أصبح البترول بلا قيمة تقريبا. فكم من الكلمات يا ترى ستفقد سمتعها في السنوات القادمة؟

(هنا صوتك)

كاريكاتير