drawas

mobil0

خطوط التماس في باب المندب

abdulrasheed alfagihيشهد مضيق باب المندب والبحر الأحمر تصعيداً ارتفعت وتيرته مع اندلاع موجة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في 7 أكتوبر/تشرين الأول، حيث شنت الفصائل الفلسطينية هجوماً مسلحاً على منطقة غلاف ( مستعمرات) غزة، تبعته عمليات عسكرية واسعة النطاق استهدفت قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، أحد تداعياتها خارج الحدود الفلسطينية سلسلة من العمليات التي استهدفت السفن الإسرائيلية من قبل جماعة أنصار الله "الحوثيين"، في مياه البحر الأحمر قبالة السواحل اليمنية.

وبمعزل عن ذلك التصعيد، والتطورات ذات الصلة به، على أهميتها، فإن مسألة أمن مضيق باب المندب والبحر الأحمر ليست مسألة عارضة بدأت مع موجة الصراع الراهنة في فلسطين، بل إنها مسألة مهمة على امتداد العقود الماضية، ارتبطت بالكثير من المحطات والأحداث والتحولات الدولية والإقليمية والمحلية، بما في ذلك، جولة الصراع الحالية في اليمن، التي اندلعت مع سيطرة جماعة أنصار الله "الحوثيين" على العاصمة اليمنية صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014، ثم بإعلان عمليات عسكرية للتحالف بقيادة السعودية والإمارات، في 26 مارس/آذار 2015، ثم بتأسيس تشكيلات محلية بخلفيات وولاءات متعددة، جمع بينها، في العام الأول من الحرب على الأقل، عنوان "مواجهة الحوثيين وصالح".

وعلى امتداد سنوات الصراع العشر، لم تكن مسألة باب المندب أمراً ثانوياً وعرضياً، بالنسبة للعديد من الفاعلين الدوليين والإقليميين والمحليين، المُنخرطين بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الصراع، بل كان مضيق باب المندب مسألة رئيسية، حاضرة على الدوام، لتوجيه دفة الصراع ومساراته، حيث عمد الفاعلون الدوليون والإقليميون إلى هندسة حدود دقيقة ومعقدة لخارطة محافظة تعز، تبعاً لأهمية موقعها وحدودها الجغرافية والإدارية، التي تُطل على واحد من أهم الممرات المائية الدولية، متمثلاً بمضيق باب المندب ومجاله الجُغرافي على البحر الأحمر.

ويعد مضيق باب المندب والبحر الأحمر، بالتكامل مع خليج عدن، بمثابة حلقة وصل استراتيجية بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط ​​عبر البحر الأحمر وقناة السويس، تمر من خلاله حصة وازنة من صادرات النفط والغاز من الخليج العربي، عبر قناة السويس، أو خط أنابيب سوميد عبر كل من باب المندب ومضيق هرمز، كما تتمثل أهمية مضيق باب المندب باعتباره بوابة جنوبية للبحر الأحمر، ذات الأهمية البالغة في النظام العالمي اليوم، جغرافياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً.

ولا تتأسس الحسابات الدولية والإقليمية الدقيقة والمعقدة للمسائل المرتبطة بباب المندب على أهميته الإستراتيجية، متعددة الأبعاد، كمضيق حيوي لحركة الملاحة البحرية الدولية، وكشريان حيوي يربط البحر الأحمر وخليج عدن مع المحيط الهندي، وبين آسيا مع أفريقيا، وحسب، بل تستند كذلك، إلى تجربة حية، استُخدم فيها مضيق باب المندب كعامل حسم في معركة ذات أهمية جيوسياسية استراتيجية خلال الحرب المصرية الإسرائيلية التي حُسمت بانتصار مصر التاريخي على إسرائيل عام 1973، فقد أُغلق باب المندب في 6 أكتوبر/تشرين الأول حتى 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1973، بشكل كلي، في وجه السفن البحرية المتجهة إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر، في وقت كانت إسرائيل تستورد فيه من إيران وحدها حينذاك نحو 18 مليون طن من النفط، الذي كان يُنقل عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر إلى ميناء إيلات الاستراتيجي، على الساحل الشمالي للبحر الأحمر، جنوب إسرائيل، والذي يلعب دورًا رئيسيًا في تسهيل حركة البضائع والسلع بصورة مباشرة بين إسرائيل من جهة وبين أوروبا وآسيا من جهة أخرى.

لذلك فالفزع الإسرائيلي والغربي المرتفع من أي احتمالية لتكرار تلك التجربة، باستخدام باب المندب في أيٍ من مستويات الصراع المُحتمل نشوبها في المنطقة، يتأسس على الأهمية البالغة التي يمثلها مضيق باب المندب والبحر الأحمر، بالنسبة للعالم عموماً، وبالنسبة لإسرائيل على وجه الخصوص، سواء لجهة الجانب الإقتصادي، أو لجهة الجانب العسكري والأمني، والجيوسياسي.

وطيلة العقود الماضية، برزت الكثير من العناوين، ذات صلة بمسألة أمن مضيق باب المندب والبحر الأحمر، لعل أبرزها: العمليات ذات العلاقة بـ "النفوذ الأمريكي والغربي"، وجولات "الصراع الفلسطيني الإسرائيلي"، و"التنافس الأمريكي والغربي مع الصين"، و"الصراع الأمريكي والغربي مع روسيا" وقبلها مع "الإتحاد السوفيتي"، و "أمن إمدادات الطاقة والسلع"، و "عمليات الحرب على الإرهاب" عقب "هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001"، و "الهجوم على المدمرة الأمريكية يو إس إس كول" قبالة السواحل اليمنية أواخر العام 2000، و"غزو العراق"، وعمليات تعقب "أشباح القرصنة الصوماليين" عقب استيلائهم على عدد من السفن أثناء عبورها مياه البحر الأحمر، و "الصراع مع إيران وحلفاؤها"، و"الحرب في سوريا"، و "الحرب في اليمن"، و"حرب السودان"، و"حرب أوكرانيا"، وانتهاء بـ"الحرب في غزة" وعمليات "جماعة الحوثيين" على خلفيتها.

وتتضاعف أهمية موقع اليمن الإستراتيجي، على مضيق باب المندب والبحر الأحمر وخليج عدن، مع مبادرة الحزام والطريق، الصينية، بأبعاده المتعددة، وهو المشروع الذي أعلنه، الرئيس الصيني، شي جين بينغ، لأول مرة، أواخر العام 2013، وأطلقه رسميًّا في مارس/ آذار 2015، باسم "الرؤية والتحرك"، كشبكة واسعة، من العمليات الضخمة، تشمل طرقات برية، رئيسية وفرعية، وشبكة من الجسور الضخمة، وشبكة من سكك ومحطات القطارات السريعة، بالإضافة إلى شبكة من الممرات البحرية وخطوط الملاحة، والموانئ والمرافئ الإقليمية العملاقة، والبنية التحتية، للربط بين قارات العالم الثلاث، ويغطي أكثر من 72 دولة، 75% من سكان العالم.

 

اليمن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر

bab mandabتمتلك اليمن شريط ساحلي طويل مشاطيء لمياه خليج عدن ومضيق باب المندب وممرات الملاحة الدولية الموازية للمخا والساحل الغربي والحديدة، ولعل إحدى الزوايا المهمة التي يجدر الإشارة إليها بشأن موقع اليمن الإستراتيجي، المُطل على خطوط تماس إقليمية ودولية ذات أهمية استراتيجية أمنياً وعسكرياً وملاحياً، أن اليمن تتقاطع مع جيبوتي، وإريتريا، والسودان، ومصر، والسعودية، والأردن، وفلسطين (إسرائيل)، من خلال مضيق باب المندب وصولاً  إلى خليج العقبة، عبر مياه البحر الأحمر، وبالتوازي، تتقاطع  اليمن مع الصومال، وعمان، وإيران، والهند، عبر مياه البحر العربي، ابتداءً من خليج عدن وحتى خليج عمان، ومضيق هرمز، وهي تقاطعات أساسية في بنية نظام أمن المنطقة والعالم.

لذلك فإن مضيق باب المندب، بالإضافة إلى جزيرة ميون، وجبل الشيخ سعيد، والجزر اليمنية الأخرى، ومديرية ذوباب، والمرافيء اليمنية، مثل المخا والحديدة والخوخة والصليف، وشريط ساحلي طويل على البحر الأحمر، وإطلالات استراتيجية على خطوط الملاحة البحرية نحو الهند وأفريقيا، تُمثل كذلك نقاط اتصال مركزية لليمن ومصالحها الجيوسياسية المشتركة مع دول القرن الأفريقي، كمجال حيوي لتبادل المصالح والمنافع الإقتصادية والجيوسياسية.

في الجهة المقابلة لليمن، تطل على مضيق باب المندب، جزيرة رأس دميرة، في خليج تاجورة، في جيبوتي، وهي دولة على صغر مساحتها، يعد ميناؤها الاستراتيجي ممراً رئيسياً لصادرات وواردات أثيوبيا، وتبعاً لموقعها الإستراتيجي، تتواجد على أراضيها ست قواعد عسكرية متقدمة، لعدة دول، تستخدم لأغراض الدفاع والاستخبارات والدعم اللوجستي، مثل القاعدة العسكرية الفرنسية، منذ استقلال جيبوتي عام1977، والتي كانت مستعمرة من قبل فرنسا، وقاعدة البحرية الأمريكية في العاصمة جيبوتي، منذ العام 2002، والقاعدة العسكرية الأسبانية، منذ العام 2008، والقاعدة العسكرية اليابانية، منذ العام 2011، والقاعدة العسكرية الإيطالية، منذ العام منذ العام 2013، والقاعدة العسكرية الصينية منذ عام 2017، بالإضافة لتواجد إماراتي وليد، تحت غطاء تجاري، وبالإضافة لتلك القواعد العسكرية في مناطق عديدة حول باب المندب والبحر الأحمر، والمنطقة، تُسير العديد من الدول بوارج قوات بحرية دولية بشكل دوري، تحت عنوان ضمان أمن وسلامة الملاحة الدولية ومكافحة الإرهاب.

وبالإضافة إلى جيبوتي، تقابل اليمن على الضفة الأخرى من البحر الأحمر، في الخطوط الأمامية لقارة أفريقيا، كل من "الصومال"، وأهم موانئها ميناء بوصاصو، في إقليم بونت لاند، الحيوي، وميناء بربرة في إقليم أرض الصومال، و "إرتيريا"، وأهم موانئها، عصب ومصوع، ونظراً للأهمية الجيوسياسية لمنطقة "القرن الإفريقي"، رابع أكبر شبه جزيرة في العالم، والتي تقع في الجزء الشرقي من البر الأفريقي الرئيسي، وتتكون من إثيوبيا، وإريتريا، والصومال، وجيبوتي، وتشمل التعريفات الأوسع أيضًا أجزاءً من كينيا والسودان وجنوب السودان وأوغندا، وبوروندي ورواندا وتنزانيا، ويمتد القرن الأفريقي على طول الحدود الجنوبية للبحر الأحمر، ويمتد مئات الكيلومترات داخل مضيق باب المندب وخليج عدن ومضيق وغواردافوي والمحيط الهندي، تتنافس العديد من الدول، من أجل تعزيز نفوذها ومصالحها فيه، وعلى رأس تلك الدول: فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وقطر وإيران، بالإضافة إلى الصين وإسرائيل الإمارات، ومؤخراً السعودية.

 

النظام الأمني لمضيق باب المندب والبحر الأحمر

في مبادرة واعية بمصالح اليمن، رعى الرئيس إبراهيم الحمدي، رئيس اليمن الشمالي(1974–1977)، قمة رباعية، على مستوى الرؤساء، للدول المطلة على البحر الأحمر، انعقدت يوم الأحد 20 مارس/آذار 1977، في مدينة تعز، ناقشت مسألة أمن البحر الأحمر، بمشاركة رئيس السودان، جعفر النميري، والصومال، محمد سياد بري، ورئيس جنوب اليمن، سالم ربيع علي، وتغيبت عنها السعودية ومصر، وكان من أبرز مخرجات تلك القمة، تشكيل نظام أمني وتنموي خاص بمنطقة البحر الأحمر، وهو المشروع الذي اغتيل مع الحمدي، مساء يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول 1977، ودُفن مع جثمانه، ورُهنت اليمن بعده لنظام سياسي ضعيف ومرتهن، عمد إلى إدارة الظهر للبحر الأحمر والقرن الإفريقي، وذهب باليمن لتحتل صدارة الدول الهشة والفاشلة، تلتهمها فجوات هائلة، في الرؤى، والبنى، والسياسات، اتسم نظامها، بالقصور الذاتي، عن تأدية الحد الأدنى، من مهامه ومسؤولياته السيادية، وأخطرها على الإطلاق، تلك المهام المتعلقة بأمن مضيق باب المندب والبحر الأحمر، وهو ما فتح الباب واسعاً أمام العديد من الفاعلين الإقليميين والدوليين، لسد تلك الفجوات، قبل الحرب، وبعدها.

ebrahim alhamdyولعل أحد العناوين الكاشفة، لجهود عقود من التقويض والإضعاف، والوصاية والهيمنة، والإرتهان، إعلان المملكة العربية السعودية، يوم الأربعاء 12 ديسمبر/كانون الأول 2021، بعد 44 عام، من اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، ومبادرته حول البحر الأحمر، عن تأسيس كيان البحر الأحمر، بهدف تعزيز الأمن والاستثمار والتنمية، في الدول المشاطئة للبحر الأحمر، وقالت وزارة الخارجية السعودية حينها،  إن سبع دول عربية، اتفقت، في المملكة، وبحضور العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، على إنشاء كيان البحر الأحمر وخليج عدن، والذي يضم السعودية ومصر والسودان وجيبوتي والصومال والأردن، واليمن، وأشارت الخارجية السعودية إلى أن الكيان يهدف إلى حماية التجارة العالمية وحركة الملاحة الدولية، وإلى تعزير الأمن والاستثمار والتنمية لدول الحوض، وأضافت أن “كيان البحر الأحمر يعتبر مبادرة من الملك سلمان لتحقيق الاستقرار في المنطقة”.

وفي يوم  الثلاثاء 11ديسمبر/كانون الأول 2022، أعلنت القوات المسلحة المصرية، في بيان صحفي، بأن "القوات البحرية المصرية تولت قيادة قوة المهام المشتركة (153) "التي تتمثل مهامها فى مكافحة أعمال التهريب والتصدي للأنشطة غير المشروعة، خاصة الأنشطة الإرهابية في كل مناطق البحر الأحمر - باب المندب - خليج عدن"، وأضافت القوات المسلحة المصرية، أن تلك الخطوة تأتي "فى إطار جهود القوات المسلحة المصرية، استكمالاً للمشاركة المصرية الفاعلة في القوة البحرية المشتركة (CMF)، نحو تحسين البيئة الأمنية بكافة المناطق والممرات البحرية وتوفير العبور الآمن لحركة تدفق السفن عبر الممرات الدولية البحرية والتصدي لكافة أشكال وصور الجريمة المنظمة التي تؤثر بالسلب على حركة التجارة العالمية ومصالح الدول الشريكة".

والمفارقة، أن بيان القوات المسلحة المصرية، جاء بعد ثلاثة أيام فقط، من إعلان الحكومة اليمنية والحكومة الإماراتية توقيع "اتفاقية التعاون العسكري والأمني ومحاربة الإرهاب"، في 8 ديسمبر/كانون الأول 2022، والتي لم يُفصح عن مضامينها وتفاصيلها، باستثناء خبر رسمي مقتضب أشار بأن الإتفاقية تهدف إلى "الحفاظ على الأمن والسلم والاستقرار في الجمهورية اليمنية والتعاون الأمني والعسكري في مكافحة الإرهاب"، فتح الباب أمام الكثير من التكهنات والتخمينات، بشأن طبيعة ذلك التعاون الأمني والعسكري، وصلته بأمن خليج عدن، وباب المندب والبحر الأحمر.

وفي وقت سابق على بيان القوات المسلحة المصرية، واتفاقية التعاون اليمنية الإماراتية، ولكيان البحر الأحمر المُعلن من الرياض، كان قائد القيادة المركزية للقوات البحرية الأمريكية في الشرق الأوسط، جيم مالوي، قد أعلن، من مقر الأسطول الخامس بالمنامة،  في يوم الخميس 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، انطلاق عمل تحالف عسكري بحري بقيادة الولايات المتحدة، لحماية الملاحة في منطقة الخليج، حيث تشمل منطقة المهمة البحرية التي أطلق عليها اسم "سنتينال"، مياه الخليج، مرورا بمضيق هرمز نحو بحر عمان ووصولا إلى باب المندب في البحر الأحمر، وقال مالوي أنّ الهدف هو "العمل معا للخروج برد بحري دولي مشترك" على الهجمات ضد السفن، وقال "هدفنا دفاعي بحت، والتركيبة العملياتية تقوم على مبدأ التعامل مع التهديدات وليس التهديد"، وأضاف "ليس هناك من مخطط هجومي لجهودنا، باستثناء الالتزام بالدفاع عن بعضنا البعض في حال تعرّضنا لهجمات".

وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قد أطلق خلال عرض عسكري لضباط من البحرية الإسرائيلية في حيفا، يوم الأربعاء 2 أغسطس 2018، تهديدات صريحة، توعد فيها إيران "بمواجهة عسكرية لتحالف دولي، سيشمل كل الأفرع العسكرية لإسرائيل، في حال حاولت إيران إغلاق مضيق باب المندب عبر حلفاءها".

 

باب المندب بالنسبة لرؤية 2030 السعودية

يقود الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، تحولاً هائلاً، في السعودية، بأبعاد جيوسياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية وعسكرية، عديدة، أحد العناوين الرئيسية لذلك التحول، رؤية المملكة 2030، وعملياتها التنموية، والتي يحتل الساحل الغربي للمملكة، على مياه شواطيء البحر الأحمر ومياهه، حصة وازنة منها، وبقدر الفرص الواعدة لها، فثم مخاطر وتحديات عديدة تتربص بها، وإذا ما استثنينا المنافسة الإماراتية الخشنة، التي ترى في الطموحات السعودية مُهدداً وجودياً لمصالحها، فأبرز التحديات، تتمثل في الحرب في اليمن والوضع الذي عُقد فيها، والحرب في السودان، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهي بمجلها وثيقة الصلة بأمن البحر الأحمر، وجُملة المصالح المرتبطة به.

 

الحرب في اليمن

خلافاً لتوجهها منذ مارس/أذار 2015، برز خلال عامي 2022 و 2023، توجهاً جديداً، للسعودية، في تعاملها مع ملف الحرب في اليمن، أفصح عن وجود رغبة حقيقية لإنهاء الحرب، والعمل من خلال مسار دبلوماسي تفاوضي، لبدء عملية سياسية يمنية-يمنية، تفضي إلى حل سياسي للصراع، ولذلك، يسرت عُمان مفاوضات ثنائية بين السعودية، وبين جماعة أنصار الله "الحوثيين"، وقد شكلت زيارة الأمير محمد بن سلمان، في 11 سبتمبر/أيلول2023، عقب مشاركته في قمة العشرين، بالعاصمة الهندية، نيودلهي، إلى العاصمة العمانية مسقط، والتي استمرت ستة أيام، التقى خلالها بالسلطان هيثم بن طارق، سلطان عُمان، دفعة كبيرة لتلك الجهود الرامية إلى وقف الحرب، وبالتوازي، وفي مسار ذي صلة بملف الحرب في اليمن، وملفات الصراع الإقليمي الأخرى، أعلنت السعودية وإيران، في 10 مارس/آذار 2023، من العاصمة الصينية بكين، عن عودة العلاقات بين البلدين، برعاية صينية، بعد أن كانت قد شهدت توترا لا مثيل له، منذ العام 2016، و قال السفير الإيراني المعيّن حديثا إلى السعودية علي رضا عنايتي، عقب لقاء جمع بين وزير الخارجية الإيرانية، عبد اللهيان نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان، إن "عودة العلاقات بين البلدين ستكون لها تأثيرات مهمة على الاستقرار وثقافة الحوار في منطقة الشرق الأوسط".

ويوم الخميس 7 ديسمبر/كانون الأول 2023، أشارت مصادر إعلامية سعودية، أن السعودية حثت الحكومة الأمريكية على التزام ضبط النفس إزاء هجمات الحوثيين على سفن في البحر الأحمر، حرصاً على تجنيب اليمنالمزيد من القتل والخراب والدمار، ومن أجل تحقيق تطلعات الشعب اليمني في السلام والأمن.

الحرب في السودان

في 15 أبريل/ نيسان 2023، اندلع قتال عنيف في العاصمة السودانية الخرطوم، وفي عدد من المدن السودانية الأخرى، بين الجيش السوداني المدعوم من السعودية من جهة، وبين قوات الدعم السريع، المدعومة من الإمارات من جهة ثانية، بعد أسابيع من التوتر المتصاعد حول خطة ترمي إلى تسليم السلطة للمدنيين، وامتد القتال في أيلول/سبتمبر، إلى ميناء بورتسودان، الطريق التجاري الحيوي، وقد شكّلت الحرب في السودان، تهديدًا للأهداف الأمنية السعودية في البحر الأحمر، ومنذ اندلاع القتال في عام 2023، خاضت الرياض جهود وساطة بالاشتراك مع الولايات المتحدة. وعلى ذكر الحرب في السودان، من المهم استدعاء ما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال، حول حديث ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، لفريق من معاونيه، عن تعرضه للطعن في الظهر، من قبل الإمارات، الحليف للسعودية، ظاهريًّا على الأقل، في سياق الحديث عن الدور الإماراتي في حرب السودان، التي تدعم قوات الدعم السريع، في مواجهة قوات الجيش السوداني، التي تدعمها السعودية.

الصراع الفلسطيني الإسرائيلي

في 26 سبتمبر/ أيلول 2023، ولأول مرة منذ عقود، قدم نايف بن بندر السديري، أوراق اعتماده، رسمياً، أمام وزير الخارجية الفلسطيني، رياض المالكي، في رام الله، كسفير غير مقيم، وكقنصل عام، للمملكة العربية السعودية، لدى دولة فلسطين، وأكد في مؤتمر صحفي موقف بلاده من القضية الفلسطينية على أساس "فرض الشرعية الدولية وحل الدولتين"، وتعد زيارة الدبلوماسي السعودي، على رأس وفد سعودي، هي الأولى للأراضي الفلسطينية منذ عقود، بعد أيام من تصريحات ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، التي قال فيها إن بلاده تقترب كل يوم "أكثر فأكثر" من تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وذلك ضمن محادثات تقودها الولايات المتحدة.

NETENفي سياق ذي صلة، أصدرت المملكة العربية السعودية، 11 سبتمبر/أيلول 2023 ،خريطة رسمية محدثة، تتضمن حدودها البرية والبحرية، واللافت في الخريطة الجديدة، أنها شملت بالإضافة للعديد من الجزر، جزيرتَي تيران وصنافير، اللتين تقعان عند مدخل خليج العقبة، أصبحتا تحت سيادة السعودية بعد أن تنازلت لها مصر عن الجزيرتَين، عام 2016، عززت السعودية من خلال الجزيرتين، نفوذها العسكري، لا سيما في خليج العقبة، ووضعت السعودية، حدودها الجديدة، في الجهة المقابلة لجزيرتي تيران وصنافير، مع الأردن وفلسطين، رغم أن مدينة إيلات المرفئية، على الضفة المقابلة، تحت الإحتلال الإسرائيلي، وهي في قلب عمليات الإستهداف التي أطلقتها جماعة أنصار الله "الحوثيين"، ومن ذلك استهدافها للسفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، من وإلى ميناء إيلات.

لكل ذلك، يُعَد الاستقرار في منطقة البحر الأحمر أمراً بالغ الأهمية لعدد كبير من مشاريع "رؤية 2030" السعودية، بما في ذلك المنطقة الحضرية الجديدة "نيوم" شمال غرب منطقة تبوك، والتي تشمل مدينة مرفئية عائمة على ساحل البحر الأحمر، ووجهات جُزرية فخمة، بالإضافة إلى المشروع الإنمائي السياحي المسمى "البحر الأحمر الدولية"، بالإضافة إلى محطة ينبع، ذات الأهمية البالغة، لجهة الاقتصاد النفطي التقليدي في السعودية، بوصفها بديلًا عن مضيق هرمز، في عام 2018، زادت المملكة قدرتها التصديرية، انطلاقًا من ساحلها الغربي.

لذلك، فإن مسألة أمن مضيق باب المندب والبحر الأحمر وخليج عدن، وصولاً إلى البحر العربي وخليج عمان، تتقاطع مصالح السعودية ورؤيتها 2030، مع مصالح اليمن، مُتمثلة بوجود دولة يمنية مستقرة، ضداً على تصورات التفتيت والإضعاف، وضداً على تمكين تشكيلات مسلحة وظيفية، ما دون وطنية، خلافاً لمنظور الإمارات ولمصالحها ونفوذها.

 

الإمارات وباب المندب وخليج عدن

لأهداف، أمنية، وعسكرية واقتصادية وسياسية، وديموغرافية، انهمكت الإمارات، منذ إعلان عمليات التحالف في اليمن، في 26 مارس/أذار 2015، في الإستحواذ على مناطق حيوية، في إطار تركيزها على المرافيء المُطلة على الممرات المائية، والتي يمكن أن تؤثر سلباً، في حال تم تشغيلها، على ميناء جبل علي، وموانيء دبي، لذلك عمدت إلى الإستحواذ على تلك المناطق، إبتداءً من إنشاء قواعد عسكرية فيها، أو تمكين تشكيلات مسلحة موالية لها، حيث بات نفوذها يشمل كل من: موانئ المكلا وشبوة وعدن والمخا وجزيرة ميون، وجزيرتي حنيش الكُبرى والصُغرى، وباب المندب،  وجزيرة سقطرى في المُحيط الهندي، فيما عيونها لا زالت مفتوحة على المهرة، شرق اليمن، وعلى بحر العرب وخليج عمان

وتستحوذ الإمارات، فعلياً، على مرافيء ومناطق يمنية حيوية واستراتيجية، بالإضافة إلى سيطرتها على العديد من المرافيء في القرن الأفريقي، منها ميناء جيبوتي، وبوساسو (بونتلاند/الصومال)، وبربرة (أرض الصومال/الصومال)، وعصب  ومصوع(إريتريا)، وهي تستثمر وتدير عبر شركة موانئ دبي شبكة واسعة من الموانئ والمنشآت البحرية تقدر وفقا لموقعها الإلكتروني بـ 78 ميناء ومحطة بحرية تتوزع في نحو 40 بلدا على امتداد قارات العالم الست.

قبيل الحرب في اليمن، أعلنت الحكومة اليمنية، في 25 أغسطس/آب2012، إلغاء اتفاقية مُنحت فيها شركة موانئ دبي تشغيلَ ميناء عدن، ابتداءً من العام 2008، بسبب اتهامها لشركة دبي، بارتكاب إخلالات، عمدت من خلالها إلى تعطيل العمل في الميناء لصالح موانئ أخرى تديرها، وبطريقة مماثلة، اتهمت حكومة جيبوتي موانئ دبي في 2014، بتقديم رشىً لرئيس هيئة الميناء والمنطقة الحرة في جيبوتي آنذاك عبدالرحمن بوريه، لضمان الفوز بعقد امتياز إدارة محطة وميناء دوراليه للنفط، ما دفع بالرئيس إسماعيل عمر جيله، إلى فسخ التعاقد من جانب واحد. ، لكن محكمة لندن للتحكيم الدولي، رفضت في مارس/أذار 2016، اتهامات حكومة جيبوتي، لموانئ دبي، وألزمتها بنفقات الدعوى.

 

تعز المُشطرة والصراع على جغرافيتها

ولفهم الحالة المُعقدة، للصراع المدمر في تعز، أحد العناوين الرئيسية للحرب في اليمن، من المهم، استعراض جُملة من المحطات والأحداث، والحقائق، ذات الصلة بذلك الصراع، الهادف إلى السيطرة على بر تعز، التي تتوسط الخارطة اليمنية، وهو بر مضيق باب المندب، والبحر الأحمر، وهو الصراع المعقد والطويل الذي لم ينل القدر المتوجب واللازم، من البحث والدراسة والتحليل والمناقشة، رغم ما تمثله تعز، ببرها وبحرها وكتلتها السكانية، من أهمية مركزية بالغة، ووازنة، في المشهد اليمني العام، سلماً وحرباً.

فمنذ الشهور الأولى للصراع، سعت عدة أطراف للسيطرة الكاملة على محافظة تعز بحدودها الجغرافية والإدارية، الطبيعية، ابتداءً من جماعة أنصار الله "الحوثيين"، ومرواً بتشكيلات حزب الإصلاح، وانتهاءً بتشكيلات السلفيين بقيادة أبو العباس، وخلفه الإمارات، وفي حين كانت قد أوشكت قوات جماعة الحوثيين وصالح، على السيطرة على كامل مدينة تعز وريفها، بالتزامن مع وصولها إلى عدن، خلال شهر مارس/أذار 2015، خرجت مظاهرات إحتجاجية سلمية مناهضة لسيطرة الجماعة، على محافظة تعز، وعدن، يوم الثلاثاء 24 مارس/أذار 2015م، حيث هاجم مسلحو جماعة أنصار الله “الحوثيين” وأفرادَ من قوات الأمن الخاصة، تظاهرتين سلميتين، منفصلتين، فتحوا النار،  على تجمّع سلميّ في جولة القصر شمال شرق مدينة تعز،

وفي هجوم منفصل، فتحوا النار، على تظاهرة سلمية في مدينة التربة – جنوب غرب مدينة تعز، ودخلت تعز، منذ ذلك اليوم الدامي، في صراع مدمر، قتُل خلاله آلاف المدنيين، وجرح الآلاف منهم، كذلك.

وفي حين تركز الصراع في تعز على السيطرة على مدينة تعز، تشكلت في مواجهة جماعة الحوثيين وقوات صالح، مجاميع مسلحة، عديدة، أبرزها، تلك الموالية لحزب الإصلاح، بقيادة حمود المخلافي، فيما انتسب الجنود النظاميون إلى اللواء 35، بقيادة العميد، عدنان الحمادي، وتشكلت مجاميع سلفية تحت قيادة أبو العباس، وخلال الأعوام 2015 و2016 و2017، شهدت تعز أعنف المواجهات، واستهدفت عشرات الهجمات الدامية المدنيين في مدينة تعز، وفرضت جماعة الحوثيين مع قوات صالح حصاراً خانقاً على مدينة تعز، تمكنت التشكيلات المواجهة لجماعة الحوثي وقوات صالح، من كسره من الجهة الغربية، بعد سيطرتها على الأغلب الأعم من مساحة مدينة تعز، وصولاً إلى الحجرية غرباً، فيما استماتت جماعة الحوثيين للإحتفاظ بالسيطرة على أجزاء من شرق وشمال وجنوب مدينة تعز.

بالتوازي مع الحرب على مدينة تعز، أعلن التحالف بقيادة السعودية والإمارات، في 14 يوليو/ تموز 2015، عن عملية عسكرية بحرية وجوية وبرية، لتحرير مدينة عدن من سيطرة قوات جماعة أنصار الله الحوثيين وحليفهم وقتذاك الرئيس السابق صالح، تلتها عملية عسكرية لتحرير مضيق باب المندب ومديرية ذوباب في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2015، حيث انتزعت من قبضة الحوثيين وأصبحت تحت سيطرة تشكيلات يمنية موالية للتحالف بقيادة السعودية والإمارات، ومن أبرز الأحداث خلال تلك الفترة، تواتر الهجمات على السفن والبوارج أثناء عبورها مياه البحر الأحمر، حيث أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية، في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2016، تعرض المدمرة (يو.إس.إس ماسون)، لهجوم صاروخي، اتهمت فيه الحوثيين، الذين نفوا علمهم بالهجوم، بعد أسبوع واحد من إعلان تعرض سفينة إماراتية، لهجوم شنه الحوثيون، وفي 23 يناير/كانون الثاني 2017، أعلنت قوات الجيش اليمني والمقاومة الشعبية، بمساندة من التحالف، استعادة مدينة المخا، بالكامل، صاحبة الميناء الاستراتيجي على البحر الأحمر، غرب محافظة تعز، من قوات جماعة الحوثي والرئيس السابق صالح، وذلك بعد معارك وصفت بـ"العنيفة".

وقبل أن تتعرف مدينة تعز على طريقها إلى التعافي، من الجولة الأولى من الصراع، غرقت في جولة جديدة منه، بين الحلفاء، للسيطرة عليها، بين تشكيلات أبو العباس، المدعوم من الإمارات من جهة، وتشكيلات الإصلاح من جهة ثانية، ووسط ذلك الصراع، تسللت إلى قلب المدينة الحضرية، تشكيلات متطرفة، في 21 أبريل/نيسان 2018 أُعلن عن مقتل "حنا لحود"، موظف اللجنة الدولية للصليب الأحمر، في تعز، على يد متطرفين، وعلى امتداد الأعوام 2015 و2016 و2017، تركز دعم التحالف والإمارات على وجه التحديد، على تقوية وتمكين تشكيلات "أبو العباس" السلفية، على حساب تشكيلات حزب الإصلاح، بقيادة "حمود المخلافي"، والتي كانت قد نُذرت لعملية إضعاف قسرية، مع مسار إخضاع متصاعد، بقوة التحالف وهيمنته، في أحد أهم معاقل الحزب.

ولم تتوقف عملية الإضعاف والتحجيم التي استهدفت تشكيلات حزب الإصلاح، والتي كانت جارية ونافذة على قدم وساق، إلا مع إعلان إدراج الإدارة الأمريكية، عادل عبده فارع "أبو العباس"، في 25 أكتوبر/تشرين الأول/ 2017، على قوائم الإرهاب الأمريكية، وتباعاً، على لوائح السعودية والإمارات، لتنفتح فرصة استثنائية أمام تشكيلات حزب الإصلاح، التي كانت جاهزة، لاقتناص تلك الفرصة، واستعادة سيطرتها ونفوذها المُطلق على مدينة تعز تحت عنوان مكافحة الإرهاب، وعقب استعادة سيطرتها المُطلقة على المدينة، أدارت تشكيلات الإصلاح ظهرها لقوات الحوثي، المتمترسة شرق المدينة، واتجهت غرباً للسيطرة على مناطق التربة والحجرية، جنوب غرب تعز.

وبتتبع مجريات الصراع في تعز، فالواضح بجلاء، أن هناك خارطة لـ "تعز مُشطرة"، طبقاً لموجهات لاءات ثلاث: لا لسيطرة حوثية على كامل تعز  أو جزء منها يشمل باب المندب، لا لسيطرة حزب الإصلاح (الإخوان) على كامل تعز أو جزء منها يشمل باب المندب، لا لسيطرة سلفية وتنظيمات سنية متطرفة على أجزاء من تعز تشمل باب المندب، وهي لاءات وثيقة الصلة بسيناريوهات الصراع الإقليمي أو الدولي المُحتمل، من خطوط تماسه، فوهة "الصراع الفلسطيني الإسرائيلي"، والصراع مع إيران، بالإضافة إلى تنافس وصراع الدول الكُبرى، ومسائل "مكافحة الإرهاب"، وأمن "مضيق باب المندب" و "البحر الأحمر" و "خليج عدن"، وهي لاءات واعية لمشترك يتيم يجمع بين المكونات (الإسلامية) الثلاث، يتمثل بموقفها من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهي مسألة لفرط حساسيتها وأهميتها، لا تترك مجالاً للمجازفة، بالمراهنة على خطوط ومفاعيل تحالفات الحرب في اليمن واستقطاباتها.

وتبعاً للأهمية العالية لموقعها الجغرافي وكتلتها السكانية الوازنة، احتكم مهندسوا خارطة تعز المُشطرة، إلى جُملة من الهواجس الأمنية والعسكرية والإقتصادية والسياسية، الجدية، لفاعلين عديدين، يتمثل العامل المشترك بينهم، في الحاجة المُلحة لضمان تحييد مضيق باب المندب والبحر الأحمر وخليج عدن، من أي استخدام غير مُتحكم به، في حال نشوب أي صراع إقليمي أو دولي، ولم يترك الفاعلون الدوليون والإقليميون الأمر للصدفة، كعادتهم، ولذلك، فعلى امتداد سنوات الصراع العشر، لم يُسمح لأي طرف بالسيطرة منفرداً على كامل محافظة تعز بحدودها الطبيعية، وعلى رأس ذلك مساحات شاعة ومرتفعات جبلية تمثل "بر" مضيق باب المندب والبحر الأحمر وخليج عدن، واستقر الأمر، في نهاية المطاف، على تقسيم المحافظة إلى ثلاث مناطق، تحت سيطرة أطراف وتشكيلات مختلفة، وليصبح ذلك واقعاً تركزت العمليات العسكرية في جبهاتها، لفرض حدود أشطارها، على أرض الواقع، وتكفلت "النيران الصديقة" لمقاتلات تحالف الإمارات والسعودية، بأي تجاوز لتلك الحدود الدقيقة، من أي طرف كان، وعلى امتداد سنوات عديدة من الحرب، بقيت جبهات تعز مُشتعلة، خلافاً للكثير من جبهات الحرب الـ 42، والتي جنحت في الأغلب الأعم منها، إلى الكمون والسكون، منذ العام 2016، مع بعض الإستثناءات العرضية، فيما لا يزيد عن 5 جبهات، في الحد الأعلى.

ومع استقرار سيطرة جماعة الحوثيين على شطر من تعز، وسيطرة تشكيلات الإصلاح على شطر، وفي حين أفصح العميد عدنان الحمادي قائد اللواء 35، والذي قُتل لاحقاً، في 2 ديسمبر/تشرين الأول 2019، في ظل ظروف غامضة وملتبسة، عن رفضه لعروض سخية مقابل تولي مهمة سحق تشكيلات الإصلاح والسيطرة على مدينة تعز أو حتى على شطر جنوب غرب تعز (الحجرية مع باب المندب والساحل الغربي)، علقت الإمارات ، في حاجتها المُلحة لخلق تشكيل مُسلح جديد، لانتدابه لمهمة تسلم الشطر الثالث من تعز، يتركز مداره في منطقة مضيق باب المندب والبحر الأحمر، بحراً وبراً، كقوة مسلحة ومدربة وطيعة، تتولى مهمة الحيلولة دون وصول التشكيلات القتالية التابعة للمكونات "الإسلامية" الثلاث، إلى باب المندب ومجاله، ودون أي وصول ناري أو عملياتي، إلى خطوط الملاحة، على مضيق الباب المندب والبحر الأحمر وخليج عدن، في جميع الظروف.

وفي إطار إنجاز تلك المهمة، شمال غرب تعز، أعلنت قوات التحالف بقيادة السعودية والإمارات، يوم الأربعاء 14 يونيو/حزيران 2018، إطلاق عملية النصر الذهبي، لتحرير مدينة الحديدة الساحلية، من سيطرة قوات جماعة الحوثيين، وصلت خلالها، وفي وقت قياسي، قوات التحالف، والتشكيلات المحلية، تخوم مطار الحديدة، ومديرية الدريهمي، الواقعة على بعد عشرة كيلومترات، جنوبي مدينة الحديدة، وبعد نحو ستة أشهر من الصراع العنيف جنوبي مدينة الحديدة، أعلن مبعوث الأمم المتحدة في 13 ديسمبر/تشرين الأول 2018، توقيع الأطراف على "اتفاق استكهولم"، بعد سبع أيام من المفاوضات التي رعتها الأمم المتحدة بين الأطراف.

 

مهمة طارق صالح

في منتصف فبراير/شباط 2018، سُجل في مدينة المخا، أول ظهور للعميد طارق صالح، الذي سبق وتولى قيادة الحرس الخاص واللواء الثالث حرس رئاسي، خلال السنوات الأخيرة لحكم عمه "صالح"، الذي قُتل في 2 ديسمبر/كانون الأول 2017، عقب مواجهات مسلحة دامية أنهت تحالفه الوثيق مع الحوثيين، وتالياً، أعلن عن تأسيس تشكيلات مُسلحة جديدة، بقيادته، تحت مُسمى المقاومة الوطنية/حراس الجمهورية، وبدعم من الإمارات، تسيطر على مدينة المخا، ومرفأها الإستراتيجي، كطرف جديد في الحرب، ولاحقاً، أُشركت تلك التشكيلات، مع قوات عسكرية أخرى، في ما يُعرف بالقوات المشتركة، في عملية عسكرية واسعة النطاق، أُطلقت في 19 إبريل/نيسان 2018، للسيطرة على معسكر خالد بن الوليد، شرق مدينة المخا، والتحكم بمنعطف طريق رئيسي بين مدينة مخا الساحلية ومدينة تعز، وساهم ذلك لاحقاً في التقدم نحو مدينة الحديدة شمالاً، في عملية عسكرية سُميت بـ "النصر الذهبي"، في يونيو/حزيران 2018.

tareg salehوفي إطار التنافس السعودي الإماراتي على النفوذ والسيطرة، وبالتزامن مع تصعيد واسع النطاق في جبهات مأرب وشبوة، أعلنت تشكيلات حراس الجمهورية أو المقاومة الوطنية، التي يقودها طارق صالح، والمدعومة من الإمارات، يوم الخميس 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، عملية انسحاب أحادية ومُفاجئة، من مواقع سيطرتها المتقدمة جنوبي مدينة الحديدة، بمساحة تقدر بنحو 100 كيلو على الساحل الغربي، ولم يكن لعملية الإنسحاب أي علاقة باتفاقية ستوكهولم، كما أنها تمت دون علم الأمم المتحدة أو أي من مكاتبها ووكالاتها، كما أنها تمت دون علم الحكومة المعترف بها دولياً أو أي من سلطاتها المحلية المعينة، ولم تكن عملية الإنسحاب كذلك، منسقة مع التشكيلات المسلحة المحلية الأخرى، الموالية للحكومة المعترف بها، وانحصر التنسيق فقط في حدود ضيقة بين القوات المشتركة والمجلس الانتقالي، المدعومة إماراتياً، وفي حين دفع الحوثيون بتعزيزات عسكرية لملء الفراغ قبل يومين من الانسحاب، حيث سيطروا على كافة المساحات المنسحب منها دون قتال.

وعلى امتداد خمس سنوات من تمكين العميد طارق صالح، من السيطرة على مدينة المخا، وعدد من المناطق المتاخمة لها، عملت آلة دعائية ضخمة على رسم صورة ذهنية مُتخيلة لإنجازات عسكرية وتنموية وسياسية، عديدة، تحت قيادته، بصورة تفتقر إلى الحد الأدنى من المعلومات والحقائق الدقيقة، ورغم عدم اعتراف العميد طارق صالح والتشكيلات المسلحة التي يقودها منذ إبريل/نيسان 2018، بسلطة الحكومة المعترف بها دولياً، خلال رئاسة هادي، فقد عيُن عضواً في مجلس القيادة الرئاسي في 7 إبريل/نيسان 2022، الذي أُعلن من الرياض، وطوى صفحة الرئيس هادي الذي كان قد تسلم الرئاسة في 21 فبراير/شباط 2012، خلفاً للرئيس صالح، في إطار المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية.

وتحت غطاء صفته الجديدة، كعضو في مجلس القيادة الرئاسي، وعلى وقع التصعيد على البحر الأحمر وباب المندب، أُعلن عن وصول العميد طارق صالح، إلى جمهورية جيبوتي، يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، والتقى في العاصمة جيبوتي، رئيس جمهورية جيبوتي، إسماعيل عمر جيله، بحث اللقاء، المستجدات الإقليمية والدولية، وسُبل مواجهة التهديدات المتنامية للملاحة الدولية عرض البحر الأحمر، والتي تمثل خطرًا على الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي.

توقيع اتفاقية توأمة بين محافظ محافظة تعز وجيبوتي

وفي ظل الغياب التام لأي إشارة للقوات البحرية اليمنية النظامية، ولأي ممثلين للوزارات والمؤسسات اليمنية، ذات العلاقة، أُعلن يوم الخميس, 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، عن توقيع اتفاقية توأمة بين محافظتي تعز وجيبوتي، وقعها عن الجانب اليمني، محافظ تعز، نبيل شمسان، ومحافظ جيبوتي، سعيد داوود، تهدف طبقاً لخبر صحفي مقتضب، وملتبس، إلى تعزيز الروابط الثقافية والسياحية والتبادلات التجارية وتدفقات الاستثمار وتبادل الخبرات في مجالات بناء البنية التحتية، وخلق فرص العمل لأبناء المدينتين في إطار اتفاقيات التعاون.

الحوثيون والتصعيد على البحر الأحمر وباب المندب

على خلفية العملية العسكرية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، عقب هجوم الفصائل الفلسطينية، على منطقة غلاف غزة، في  7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ووسط مساعي إسرائيلية وأمريكية وغربية تهدف إلى حصر الصراع بين إسرائيل وحماس، في قطاع غزة، وعدم السماح بتوسيع الصراع إلى مدى إقليمي أوسع، أطلقت جماعة أنصار الله "الحوثيين"، تحذيرات باستهداف أي سفن إسرائيلية تعبر مياه البحر الأحمر، وبعد أيام فقط من تهديداتها، أعلن الناطق العسكري للجماعة، يحيى سريع، في 19نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، احتجاز سفينة تجارية إسرائيلية في البحر الأحمر، وإجبارها التوجه إلى ميناء الصليف بالحديدة، كرد على العملية العسكرية التي استهدفت قطاع غزة وحصارها.

2023 11 19وقالت الإدارة البحرية الأمريكية، على موقعها، إن سفينة Galaxy Leader اختطفت على بعد حوالي 50 ميلاً غرب ميناء الحديدة الذي يسيطر عليه الحوثيون، مضيفة أنه يتعين على السفن "توخي الحذر عند عبور هذه المنطقة"، من جانبه اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الاحتجاز بمثابة "هجوم إيراني على سفينة دولية" متهما الحوثيين بالقيام بالعملية بناء على "تعليمات إيرانية"، من جهتها، رفضت إيران الاتهامات الإسرائيلية بالضلوع في العملية واعتبر المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني أن "هذه الاتهامات فارغة وتنجم عن الظروف المعقدة التي يواجهها الكيان الصهيوني".

في بيان أصدرته يوم الثلاثاء 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، دعت مجموعة الدول الصناعية السبع، جماعة الحوثيين إلى الوقف الفوري للتهديدات التي تستهدف ممرات الشحن الدولي والسفن التجارية، وإلى إطلاق سراح السفينة M/V Galaxy Leader وطاقمها.

وتعقيباً على بيان وزراء خارجية مجموعة الدول الصناعية السبع، قال محمد عبدالسلام، كبير مفاوضي جماعة أنصار الله "الحوثيين"، يوم الأربعاء 29 نوفمبر/تشرين الثاني2023، أن عمليات استهداف السفن منحصرة بالسفن الإسرائيلية، وأن مصير السفينة مرتبط بخيارات الفصائل الفلسطينية، وأن جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين، تمثل تهديداً للأمن والسلم الإقليميين والدوليين، وأن التصدي لها ولأنشطتها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني والمنطقة ضرورياً لضمان أمن وسلام المنطقة والعالم.

في 1 كانون الأول/ديسمبر 2023، دان أعضاء مجلس الأمن الدولي الهجمات التي قام بها الحوثيون ضد سفينة تجارية في البحر الأحمر، ودعوا إلى الإفراج الفوري عن السفينة MV Galaxy Leader  وطاقمها. وشدد أعضاء المجلس على أهمية الحقوق والحريات الملاحية لجميع السفن في خليج عدن والبحر الأحمر، وفقا للقانون الدولي، كما دان الاتحاد الأوروبي، الهجمات التي شنها الحوثيين بالصواريخ والطائرات المسيرة على سفن تجارية، في البحر الأحمر.

وفي 3 ديسمبر/كانون الأول 2023، شهد البحر الأحمر تصعيداً جديداً، حيث أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية، أن سفينة حربية أمريكية وعدة سُفن تجارية تعرّضت لهجوم اليوم الأحد في البحر الأحمر ونقلت رويترز عن الوكالة البحرية البريطانية، عن نشاط مسيرات وانفجار محتمل بمضيق باب المندب بالبحر الأحمر، كما قالت شركة الأمن البحري البريطانية أمبري إن سفينة حاويات تعرضت لأضرار جراء هجوم بطائرة بدون طيار على بعد حوالي 63 ميلاً شمال غرب ميناء الحديدة شمال اليمن، وأعلن المتحدث العسكري لجماعة الحوثيين، تبني الجماعة، عملية  استهداف سفينتان" "إسرائيليتان " في باب المندب، كما أعلنت إسرائيل إرسال قطعا بحرية وغواصة إلى البحر الأحمر بعد استهداف سفن من قبل جماعة الحوثي.

ومنذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحركة حماس في 7 أكتوبر، أطلق الحوثيون سلسلة هجمات بالصواريخ والمسيّرات من اليمن نحو جنوب إسرائيل تضامنًا مع الفلسطينيين في غزة، وطبقاً لتصريح منسوب لجدعون غلبار، مدير مينا إيلات، فإن‏ تهديدات الحوثيين، أثرت على جميع السفن، سواء تلك التي تمر إلى البحر الأبيض المتوسط ​​أو إلى ميناء إيلات.

وفي حين عمد الفاعلون الإقليميون والدوليون، إلى تأمين مضيق باب المندب، ومساحات برية شاسعة مُشاطئة له، وموازية لممرات الملاحة الدولية على البحر الأحمر، للحيلولة دون أي وصول ناري أو عملياتي عدائي، مُحتمل، في جميع الظروف، إلا أن عملية قوات جماعة الحوثيين، باحتجاز السفينة جلاكسي، والهجمات الأخرى، تمت على بعد حوالي ثلاثمائة ميل بحري، من مضيق باب المندب، وعلى بعد حوالي 50 ميلاً غرب ميناء الحديدة، الذي يقع تحت سيطرة جماعة الحوثيين، وهي منطقة خارج دائرة التوقعات التي ركزت على نطاق واسع من محيط مضيق باب المندب.

الإستخلاصات

إن تراكم إخفاقات كافة الحيل التي اعتمدت على مفاعيل التقويض والإضعاف والتفكيك والإخضاع والإرتهان، وعلى تغذية الصراعات المحلية، وعلى إنشاء التشكيلات المسلحة الوظيفية المادون وطنية، وتمكينها من مساحات جغرافية استراتيجية مُستقطعة على حدود التفتيت، وإدارة الصراعات والتوازنات بين تلك التشكيلات، كسبيل متوهم لضمان أمن الملاحة الدولية، ولحراسة سلاسة حركة المصالح عبر البحر الأحمر، ومضيق باب المندب، وخليج عدن، تتطلب إعمال نهج مُختلف، يرى السبيل الأمثل، لضمان أمن وسلامة الملاحة الدولية، وسلاسة حركة المصالح، على مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن، في وجود دولة يمنية حديثة، تشتبك مع العالم بقدر معقول وعادل من مصالح ومنافع موقعها الإستراتيجي المشروعة، ومن ذلك، فرص تعزيز التجارة البحرية، من خلال تطوير الموانئ وتسهيل حركة الشحن، مما يعزز التجارة البحرية ويسهم في تحسين الاقتصاد الوطني، وتقديم خدمات الأمان البحري للسفن العابرة لمضيق باب المندب، وتطوير مناطق ساحلية، وبناء بنية تحتية ومرافق لدعم النمو الاقتصادي، بالتعاون مع الدول الأخرى المشاطئة لمضيق باب المندب والبحر الأحمر وخليج عدن، لتعزيز الاستقرار الإقليمي.

 

نقلا عن منصة خيوط

كاريكاتير