drawas

454x140

وطن جريح.. تحت مبضع الأقلمة ومقصلة التشطير!

imagesمن يتفحص سِفر التاريخ اليمني المعاصر ويتصفح قاموسه السياسي وفلسفته السيكوباتية والسيكولوثورية، يخلص -من دون شكٍّ وبلا تعقيد أو عناء- إلى تشخيص متلازمة الاعتلال والصراع المزمن للحالة اليمنية، وإن استعصى عليه توصيف خلاص اليمنيين ووصف روشتّة العلاج الشافي للمشكل اليمني المعاش..

إنه وطنٌ مسجورٌ لمآسي ماضيه، مسكونٌ بمخاوف التغيير وهواجس الزعامة، ممسوس بعقدته اليزنية، وتقليعاته تقليداً للآخر!!

وتبرز شُحة الموارد وطبيعة الحياة القاسية، لاسيما في العصرين الوسيط والمعاصر، كأهم عوامل عدم الاستقرار والصراع المستمر من أجل البقاء، لذلك تلقّف اليمنيون بتسرّعٍ وطيش كل ما حملته إليهم رياح الخارج وعواصفه الهوجاء؛ ولا تتوقف المسألة عند اعتناق أهل اليمن للديانات المتعاقبة ولا استدعاء التدخلات الخارجية وإنشاء الدويلات والممالك والمشيخات ذات الارتباط بالخارج.

بل حتى لقد تم استجلاب أنماط معيشية وعمرانية متنوعة للحضارات الفارسية والحبشية، فالعصور الأموية والعباسية والفاطمية والأيوبية والعثمانية، وليس انتهاءً بمرحلة الاستعمار البريطاني، ثم الانسياب مع التيارات الفكرية الناصرية والبعثية والاشتراكية والأصولية فالرأسمالية..

واستعملت كثيراً مصطلحات: القومية – اليسارية – العلمانية – المدنية – الديمقراطية – العدالة الاجتماعية .. إلخ، لكنها بقيت على الدوام، وحتى لدى أكثر القوى السياسية التقدمية (مجازاً) مجرد قشور ودثارٍ تتدثر به تلك القوى المتصارعة، سرعان ما تتعرى عنه وتتكشف حقيقتها الديماغوجية وجوهرها البدائي الوحشي عند أ,ل اختبارٍ لحقيقة مواقفها وسلامة مقاصدها ومصداقية ونبل أهدافها ومبادئها.

العدالة المفقودة

ما فتئ الرئيس هادي منذ مجيئه السلطة أواخر العام 2011م، خلفاً لصالح الذي اضطرته الاحتجاجات الشعبية الواسعة أوائل ذات العام إلى التخلي عن السلطة، يردد مفردات: العدالة الاجتماعية - الدولة المدنية – الحكم الرشيد – اليمن الجديد.. ما أدى إلى رفع منسوب الأمل لدى عامة اليمنيين ببزوغ فجرٍ جديدٍ من الحرية والمساواة والشراكة الوطنية، وإقامة دولة النظام والقانون.

لكن الواقع الجديد تمخّض عن عملية محاصصة مشبوقة، ونزعة مناطقية دفينة ورثتها هذه المرة (دُثينة) عن سنحان!

القانون رسمياً في إجازة مفتوحة؛ ولا دستور فوق المبادرة الخليجية ووثيقة بنعمر!

دوامة العنف تفتك باستقرار البلد وطاحونة الحرب والقتل اللعينة تحصد أرواح آلاف الأبرياء وتهتك ناموس الحياة والسلم الاجتماعي.. وجميعها تقيّد في النهاية ضد مجهولٍ معلومٌ بالضرورة!!

وسيسجل التاريخ مأساة تهجير أبناء الشمال عن أرض الجنوب وأهالي دماج عن قراهم في صعدة لطخةً في سجل الرئيس هادي وأخرى في جبين العدالة والإنسانية!

وما بين غياب للعدالة والمواطنة المتساوية وحضورٍ لأبشع صور الانتهازية والنزعات الفئوية المدمرة يصيخ الوطن الجريح راغماً تحت مبضع الأقلمة ومقصلة التشطير!

  

الوحدوية الملغومة

وبقدر ما يحسب للرئيس السابق علي عبدالله صالح ورفيقه الوحدوي علي سالم البيض أنهما من وضعا آخر لبنات أساس الوحدة اليمنية فإنهما –للأسف- كانا أول من صوّب ضربات التجربة الوحدوية يومها لحبّ صالح وكراهية البيض؛ محبة الأول لها كانت كفيلة باحتضان مشروعها الوليد، وقبوله القبول الحسن، وكراهة الثاني لها كانت أدعى للتريث والتحوّط اللازم مغبّة تأسيس بنيانها على (جرفٍ هار) لن يلبث أن ينهار بآمال اليمنيين ومستقبلهم.

الوله الزائد بالوحدة اليوم أشبه بمراهقة متأخرة كمظهر من مظاهر الخرف السياسي، تماماً كما نوبة العنف الهستيرية الرافضة لها.

ديمقراطية تفصول!

وسط هذه الأجواء الوطنية المشحونة بالصراع والعنف، والمسمومة بلوثة الاستبداد والإقصاء، والمكتضة بمصارع المبادئ والقيم والهامات الوطنية، استطاع الدكتور ياسين سعيد نعمان الاحتفاظ لشخصه بحضور كاريزمي ومكانة رفيعة في الوجدان الشعبي ومساحة الذاكرة الجمعية الوطنية.. ولكن إلى حين.

الدكتور ياسين، التقدمي الديمقراطي، ما انفك يلوّح بين الفينة والأخرى اعتزامه ترك قيادة الحزب الاشتراكي واعتزال العمل السياسي، ولكنه كل مرة يعدل عن قراره نتيجة عجزه –على ما يبدو- في مقاومة تأثير الضغط الحزبي مثله مثل سائر أمناء عموم الأحزاب اليمنية!!

الديمقراطي ياسين الذي بدا في الآونة الأخيرة مستبداً برأيه وحراكياً أكثر من الحراك آثر في النهاية وكعادته الانسحاب من واجهة المشهد السياسي للنأي بنفسه عن تحمل مسؤولية وتبعات اتخاذ قرارات مصيرية، موكلاً مهمة إنابته لمساعده –لا نائبه- أبو بكر باذيب (الختيار)، الموالي للزمرة ماضياً.. وكأنما (ياسين) يعيد ترتيب تموضعه على دفّة السياسة اليمنية مستقبلاً، مثلما فعل إبان توقيع وثيقة العهد والاتفاق وقبيل اندلاع حرب صيف 94م؛ إذ غادر إلى الخارج فجأة وبلا مقدمات!

مسبحة المدنية!

بدوره برز حزب الإصلاح في ثياب المدنية، وهو أبعد ما يكون عن روح المدنية فكراً وممارسة، فهو –أي الإصلاح- لا يجتهد قيد أنملة خارج سياق التنظيم وإرادة قيادة الحزب.

وعلى الرغم من محاولات حثيثة بُذلت لترويض مواقف وأفكار التنظيم، ولا سيما منذ انخراطه في تكتل اللقاء المشترك، إلا أنه لم يتم تجذير وتأصيل مثل تلك النوايا الحسنة في ثنايا أدبيات الحزب وأذهان ومسلكيات منتسبيه.. ويكفي للتدليل على ذلك النظر إلى ممارسات بعض النخب المثقفة -المحسوبة على الإصلاح، وقد لا تمثل نهج الحزب- دأبت على قمع وتعنيف كل من يخالفها الرأي!

كما يعي الإصلاحى جيداً أن للمدنية بمفهومها الاصطلاحي والفلسفي ضريبة مجتمعية حقوقية وقيمية وتشريعية باهظة، قد لا تستصاغ اجتماعياً، فضلاً أن يخالطها دين! ومع ذلك يستميت الإصلاح، الحزب المنادي بالشريعة الإسلامية مصدراً لجميع التشريعات، في اقناعنا بأنه أصبح متيّماً بالمدنية وتياراً منفتحاً من الطراز الرفيع!

وثمة معضلة أخرى تضع مدنية الحزب ومصداقيته على المحك، حينما يغلب انشداده للقبيلة وراديكاليته المتطرفة،على طابعه السلمي ونهجه الديني والرسالي، وتوثبه لولوج العهد الجديد..  

فرية الحداثة

غير أن الأشد إيغالاً في استغفال وتسفيه عقول اليمنيين وتزييف وعيهم أن يتزعم الحوثي مشروع الحداثة ويدعو في رؤيته المقدمة لمؤتمر الحوار إلى لادينية الدولة (العلمانية) ويصرّ على تضمين أي توافق أو تشريع قادم مبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة..!!

لا ندري كيف يستقيم مبدأ المساواة بين فئة عنصرية تحتكر لنفسها الحق الإلهي في الإمامة والحكم، وترى في سُلالتها أنقى السلالات وخير الأجناس، وبين عامة الناس الذين هم في نظرها محض أتباع ورعاع!

ثم كيف يكون الإنسان حراً والمجتمع مصنّف بين سادة وعبيد؟! وأنّى لرأس يرتفع بعد أن تقوّس عموده الفقري بفعل مداومة فضيلة الانكباب على الأقدام وتقبيل الأيادي و"الرُّكب"؟!

إن جماعة تتمنطق العنصرية وتتوشح السلاح لفرض معتقداتها وأطماعها التوسعية بعد أن فشلت في امتلاك منطق الإقناع وحجة البيان، لهي أبعد شأواً ونكوصاً عن مشارف الحداثة والمدنية والتقدم.

جماعة هذا حالها لا تتورع عن التضحية بالدين والوطن والقيم الإنسانية في سبيل تقديس الكهنوتية والإمامة.

وبغض النظر عن المتسبب والدافع والمموّل لحرب دماج والتهجير المؤسف لأهلها وطلبة العلم فيها إلا أن ما حدث يؤكد بجلاء أن الحوثي الذي أخفق في التعامل والتعايش مع ثلّة من مخالفيه لن يسعفه بعد ذلك حمله راية الحداثة في بلوغ غاياته ومراميه.

سقوط الأقنعة

وحيثما يمّم المرء وجهه يمنةً ويسرة، يرى مزيداً من الرتوش والمساحيق الذائبة والأقنعة المتساقطة، وتتكشف أمامه الكثير من الحقائق الزائفة عن:

- وطنية الرموز السياسية والنخبوية، الذين يحمل الغالبية منهم جنسيات متعددة، ويرد اسمه في أكثر من كشف إعاشة ومعونات خاصة!

- مواطنة المشائخ، الذين –في معظمهم- لا تجاوز هوياتهم الجهوية حدود مشيخاتهم ومصالحهم الضيقة!

- ربانية العلماء، حيث رأينا كيف ابتلينا ببعض علماء دين اعتسفوا أحكام الشريعة، وولفوا في مستنقع الصراعات السياسية والمذهبية، وأثروا من توظيف رسالتهم الربانية في منفعتهم الشخصية، فضلّوا وأضلوا وفرقوا أمر الأمة شذر مذر!

- ثورية الشباب، الذين ثاروا في الأساس بحثاً عن حياة كريمة، لكن سرعان ما تبدلت المعاني وتغيرت القيم النبيلة لدى البعض منهم، وخاصة القيادات الشبابية، لتغدو صفة (ثوري) مجرد فيزة عبور للنجومية!

كاريكاتير