انتهت أشهر العسل بين الرئيس عبد ربه منصور هادي ورئيس مؤتمر شعب الجنوب محمد علي أحمد، بإعلان هذا الأخير انسحابه بشكل نهائي من مؤتمر الحوار الوطني. لكن هادي كان قد أحتاط لمثل هذه الخطوة المتوقعة من حليفه القديم، فأوعز إلى شخصيات قيادية في مكون الحراك الذي يقوده بن علي ليؤسسوا الهيئة السياسية لمؤتمر شعب الجنوب ويسحبوا البساط من تحت أقدام محمد علي أحمد ويعلنوا رفضهم الانسحاب من الحوار، وبذلك ضمن الرئيس هادي استمرار مكون الحراك الجنوبي في مؤتمر الحراك، متفاديا الفشل الذي يتربص به، علاوة على أنه ضمن تمرير مخرجات الحوار إزاء القضية الجنوبية.
البحث عن شريك
كانت معضلة الحوار الوطني، ومعضلة الرئيس هادي أيضاً البحث عن شريك جنوبي يقبل الدخول في مؤتمر الحوار الوطني الشامل كممثل عن الحراك الجنوبي في ظل مقاطعة كل فصائل الحراك في الداخل والخارج، لكن سرعان ما وجد هادي ضالته في شخص محمد علي أحمد، الذي جاء به من بريطانيا لهذا الغرض، فعاد به إلى اليمن في مارس 2012 وشجّعه على تأسيس مكون حراكي جديد هو مؤتمر شعب الجنوب الذي جعله غطاء لتحركاته في الأوساط الحراكية، كما نافس من خلاله مكونات حراكية أخرى مستقطبا شخصيات حراكية إلى جانبه. وكان من ضمن مهمات محمد علي أحمد السعي لإقناع مكونات أو شخصيات حراكية مؤثرة للانخراط في مؤتمر الحوار الوطني، لكن الرجل أخفق في مهمته فذهب بنفسه لتمثيل الحراك في الحوار، ونظير ذلك خصص له الرئيس هادي مبلغ ستين مليون ريال شهرياً ليؤدي الدور المطلوب منه. وحصل محمد على أحمد على مبتغاه وجنى ملايين الريالات من هادي، لكن يبدو أنه وجد ملايين أخرى أكثر لدى مناوئي الرئيس في الداخل والخارج فقرر العمل في الضفة المقابلة لهادي وأعلن انسحابه.
مكاسب الحراك
كان الرئيس هادي قد استطاع اختراق الحراك الجنوبي باستمالته محمد على أحمد، لكنه استطاع فيما بعد اختراق مكون هذا الأخير (مؤتمر شعب الجنوب) وشقّه نصفين واستمالة الكثير من أعضائه إلى جانبه وعزل حليفه السابق وتحجيمه وبناء مكون حراكي جديد مطواع. وبفضل ذلك سيتمكن هادي لاحقاً من تمرير مشروع الأقاليم ضمن مشروع الفيدرالية الذي يسير حثيثاً ويحظى بمساندة كثير أطراف في الداخل والخارج. ومع ذلك، فقد حقق الحراك الجنوبي مكاسب كبيرة أهمها تدويل القضية الجنوبية التي لم تعد -بعد مؤتمر الحوار- شأنا محلياً، بل قضية دولية يجري مناقشتها في أروقة مجلس الأمن ومجلس التعاون الخليجي، ما يعني أن أوراق اللعبة في القضية الجنوبية توزعت لتشمل عديد أطراف أهمها تلك التي بالخارج، والتي صار لها اليد الطولى في تقرير مصير الجنوب.
القضية الجنوبية انتزعت كذلك اعتراف كل القوى السياسية على الساحة اليمنية، وذلك بفضل المشاركة في الحوار، كما انتزع الجنوبيون مكاسب إضافية من قبيل تغيير شكل الدولة المرتبط بشكل الوحدة، فهذه الأخيرة تراجعت خطوة للوراء لتفسح المجال أمام شكل جديد من الوحدة يلبي تطلعات أبناء الجنوب ويعيدهم شركاء في السلطة والثروة بنسبة 50%، وهو مكسب كبير قياساً على ما تحقق طوال الفترة الماضية من عمر الحراك.
نشأة القضية الجنوبية
يذهب كثيرون إلى القول بأن حرب صيف 94م التي أفضت إلى إقصاء الحزب الاشتراكي من السلطة واجتياح الجنوب واستباحته كانت هي السبب المباشر لظهور القضية الجنوبية، لكن آخرون بلغ بهم الشطط حدّ القول بأن العام 1929م كان هو بداية ظهور القضية الجنوبية وذلك حين رفض الإمام يحيى حميد الدين آنذاك ضم بعض أراضي الجنوب (مثل لحج) إلى مملكته لأسباب غير واضحة. وبعضهم قال إن العام 1934م كان هو البداية الحقيقية للقضية الجنوبية، وذلك حينما وافق الإمام يحيى على خارطة الحدود السياسية بين الشمال والجنوب التي توافق عليها كل من البريطانيون والأتراك في ذلك الوقت. فيما آخرون يعيدون منشأ القضية إلى العام 1967م حين تأسست دولة الجنوب بعد رحيل آخر جندي بريطاني من عدن وشروع النظام حينها بالقضاء على السلطنات أو ما كان يسمى بالمحميات لتقوم على أنقاضها دولة الجنوب الديمقراطية الشعبية. لكن ماذا لو أن الطرف المنتصر في حرب 94 بادر وقتها لتعميق الوحدة الوطنية وإنصاف أبناء المحافظات الجنوبية وإعادة حقوقهم وإشراكهم -كغيرهم من أبناء الوطن- في السلطة والثروة؟ ماذا لو أنه دفع بعجلة التنمية هناك وجعل الناس يلمسون خير الوحدة؟ هل كنا سنسمع عن القضية الجنوبية؟ هل كنا سنسمع سفسطات بعض المنظرين اليوم للقضية الجنوبية الذين شرعوا في نبش التاريخ للبحث عما يسند أفكارهم المتطرفة عن الجنوب العربي والهوية الجنوبية وشعب الجنوب الذي لا يمتّ بصلة لليمن الطبيعية أرضاً وإنسانا؟
مهما يكن، فالقضية الجنوبية ومظلومية أهلنا في الجنوب هي إحدى تجليات سوء استخدام السلطة وتغوّل نظام الرئيس السابق واستفراده بالقرار وتعامله مع الجنوب كغنيمة حرب وتقاسمه بين مراكز القوى وشبكة المصالح والمحسوبية المرتبطة به كثمن لسكوتها وتأييدها لبقائه على كرسي الحكم.
لقد مارس نظام علي صالح إقصاء متعمد وتهميش حقيقي لكل ما يمت للجنوب بصلة، وسعى لتحطيمه بروح انتقامية طاغية، وكان ذلك باعثاً على استنهاض رجل الشارع الجنوبي للمطالبة بحقوقه المنهوبة والمهدورة، وهنا برزت ملامح القضية الجنوبية وأخذت في التشكل، وظهر الحراك كتعبير صارخ عن تلك القضية وكاستجابة لمطالب رجل الشارع في المقام الأول. فالحراك الجنوبي كان حركة شعبية غير مسيّسة حاولت تفادي الوقوع في إسار الأحزاب والعمل الحزبي، لذا رأينا الكثير من الشخصيات السياسية تعلن استقالتها من أحزابها بمجرد أن لحقت بركب الحراك.
كان الحراك الجنوبي حركة جماهيرية بامتياز، لكنه لم يبلغ أن يكون ثورة شعبية، إذ ظل مقيداً بمطالب شعبية محدودة ما لبثت أن اتجهت صوب الانفصال، كما ظل الحراك أسير التوجهات المناطقية بعيداً عن المشروع الوطني الشامل، في حين أصابه تناحر قادته وتنافسهم على الزعامة بالشلل وحدّ من قدرته على الفعل.
تشتت الحراك
ولد الحراك الجنوبي من رحم المعاناة في أوساط الجماهير, وسرعان ما لحقت به القوى الأخرى وأولها أجهزة النظام السابق التي استطاعت اختراقه وحرفه عن مساره، وكانت تلك الأجهزة أول من رفع أعلام التشطير في الفعاليات الحراكية بغية خلق حالة شبيهة بما حدث إبان حرب الانفصال في 94، أي خلق قضية وطنية يلتف الناس حولها ويظهر النظام مدافعاً عنها وهي الدفاع عن الوحدة ومواجهة الانفصاليين، لكن الظروف السياسية كانت قد تغيرت كثيراً بين عامي 94 و 2007 حتى أن الانفصال كان يجد مزاجاً شعبياً مواتياً في الجنوب بالنظر لحجم المأساة التي عاشها الناس هناك. وبالتالي فكل ما فعلته حركة السلطة تلك أنها أججت فقط المشاعر الانفصالية جنوباً دون أن تنجح في خلق حراك شعبي معارض ومصادم له في أي جزء من الوطن.
بعبارة أخرى، زادت السلطة من انقسام الحراك وخسرت في الوقت نفسه فرصة محاصرته والقضاء عليه بأخذ مشروعية شعبية.
أضف إلى ذلك، أن الحراك نفسه ولد منقسماً بين عديد مكونات وتكتلات وقيادات أخذت تتنازعه، واليوم تتنازعه مكونات مختلفة تقودها شخصيات مهووسة بالزعامة، في طليعتها علي سالم البيض، حسن باعوم، محمد علي أحمد، على ناصر محمد، أبوبكر العطاس، وآخرون. هؤلاء صاروا يقودون فصائل ومكونات حراكية، لكنهم للأسف رهنوا أنفسهم لقوى خارجية وداخلية تتحكم بهم، فالبعض صار يتبع طهران والبعض الآخر يتبع الرياض، وبعضهم يتبع الرئيس هادي، وثمّة تأثير بسيط للاشتراكي إلى جانب تأثير بريطاني أيضاً، وكل يوم يشهد الحراك انقساماً جديداً. ونتيجة لذلك ظل الحراك يعاني الضعف وعدم القدرة على إحداث أي تحولات سياسية ذا قيمة.
اللاعبون الكبار
نتيجة الانقسام الحاصل في أوساط الحراك وغياب القيادة والمشروع، وسيطرة الأطراف الخارجية عليه وعدم وجود مساندة دولية لمشروع الانفصال في الوقت الراهن، فالأطراف الخارجية، وتحديداً طهران والرياض وأمريكا والاتحاد الأوروبي صارت أهم اللاعبين في ملعب القضية الجنوبية، إضافة إلى دور الرئيس هادي. وبالنسبة لقيادات الحراك في الداخل فهي موزعة الولاءات بين تلك الأطراف، وخلافاتها أكثر من أن تعدّ، ما نجم عنه فراغ قيادي وغياب للرؤية. والأخطر منه أن القضية الجنوبية تكاد تسقط من أيدي الحراك لتقع في أيدي تلك القوى الإقليمية والدولية الممسكة بالحوار باليد الأخرى، كما ان الرئيس هادي يسابق الزمن هو الآخر في محاولة الاستحواذ على القضية الجنوبية والانفراد بتقرير مصيرها عبر مؤتمر الحوار وإعادة تشكيل مكون حراكي مطاوع له.
الرئيس هادي يسعى لحل القضية الجنوبية وفق رؤية الأطراف الخارجية الداعمة له، وهو يحاول شرعنة ذلك عبر مؤسسة الحوار التي يبدي حرصه على تماسكها وعدم انفراطها لأي سبب كان قبل إنجاز مهمتها في إخراج شكل الدولة ووضع التصورات المقبولة للقضية الجنوبية، وقد نجح إلى حد كبير في الإمساك بمعظم خيوط اللعبة داخل مؤتمر الحوار بمساندة حلفائه في الخارج، الذين مهما بدوا حريصين على حلّ توافقي للقضية الجنوبية إلاّ انهم مع ذلك سيبقون عليها كشوكة في الخاصرة اليمنية لإعادة استخدامها عند اللزوم بما يحقق مصالحهم وأهدافهم البعيدة، لذا فهم يمسكون بتلابيب الحوار ويروضون مكونات الحراك ويضغطون عليهم لقبول ما سيقرره الحوار الذي سبق وأن قرروه هم من قبل.
ومهما حاولت قيادات الحراك المختلفة في قابل الأيام التشكيك أو الطعن بمخرجات الحوار، وبخاصة فيما يتصل بشكل الدولة المقبلة، فلن يكون بوسعها فعل أي شيء تجاه الإرادة الدولية التي يمثلها الرئيس هادي، وإلّا عرضت نفسها لعقوبات صارمة ليس أقلّها ضمها لقائمة الإرهاب وإعطاء الحكومة الضوء الأخضر للتعامل مع الحراك بحزم.
إن المجتمع الدولي غدا السلاح الأشد فتكاً بيد الرئيس هادي لمواجهة مناوئي الحوار ومعارضيه من فصائل الحراك ومكوناته، ونتيجة لذلك صار بوسعه تمرير ما يشاء حيال القضية الجنوبية، فدوره يتزايد فيما دور الحراكيين في تراجع مستمر بدليل تمكنه من إقصاء وتحييد حليفه السابق محمد علي أحمد، أما القيادات الأخرى التي في الخارج فالأطراف الدولية والإقليمية كفيلة بترويضها وسوقها عنوة إلى مائدة القبول بمخرجات الحوار قبل أن تجد نفسها متهمة بالتآمر على وحدة اليمن وأمنه واستقراره.
المقالات الاقدم:
أحدث المقالات - من جميع الأقسام:
مقالات متفرقة:
المقالات الأكثر قراءة:
- منظمة الصحة العالمية : 10 آلاف قتيل و60 ألف جريح حصيلة حرب اليمن - 2018/12/10 - قرأ 127117 مرُة
- اليمن .. معركة جديدة بين قوات هادي والحراك الجنوبي في شبوة - 2019/01/09 - قرأ 26806 مرُة
- غريفيث لمجلس الأمن: هناك تقدماً في تنفيذ اتفاق استوكهولم رغم الصعوبات - 2019/01/09 - قرأ 26098 مرُة
- تبادل عشرات الأسرى بين إحدى فصائل المقاومة اليمنية والحوثيين في تعز - 2016/06/01 - قرأ 20467 مرُة
- المغرب يكشف عن "تغير"مشاركته في التحالف - 2019/01/24 - قرأ 17775 مرُة