drawas

454x140

هذه هي الحاجـات السياسيـة لتعز

fuaadalpannaتهدف هذه القراءة إلى إبراز أهم الحاجات السياسية لأبناء تعز، من خلال نظرة واقعية ورؤية عملية، بعيداً عن التنظير السياسي لمثاليات بعيدة عن الواقع، أو تزيين الواقع والقبول به على عواهنه.

ملاحظات عامة:

قبل الولوج إلى هذه الحاجات نلفت الأنظار إلى ثلاث ملاحظات عامة وهامة، تمثل مداخل ضرورية لفهم هذه الحاجات:

الملاحظة الأولى: أن حاجات تعز السياسية العامة هي ذات الحاجات المطلوبة في سائر المحافظات، وهي التي قامت من أجل تحقيقها الثورة، وحددتها أهداف الثوار وأدبياتهم، ومعظمها كانت موجودة في أدبيات الدولة اليمنية، ولكن الحاكم المستبد الفاسد وشلته الانتهازية ضربا بها عرض الحائط، ومن أهمها تحقيق المواطنة المتساوية، وإطلاق حريات الشعب وتحريره من قيوده اتي يرسف فيها، وتقديس حقوق الإنسان، وتوفير الحياة الكريمة له، من خلال دستور محكم ، وقانون محترم، وتحقيق استقلالية مؤسسات الدولة حتى لا تتجمع كل سلطاتها بيد شخص واحد فتصنع منه فرعوناً مستبداً، ولاسيما الجيش والقضاء اللذين ينبغي أن يكونا حاميين للشعب وملاذاً له من هجير الظلم إذا ظهر في أي من مؤسسات الدولة، إضافة إلى إبعاد إلإعلام والمال العام عن أيدي الحاكم حتى لا يستغني فيطغى، كما قال القرآن الكريم: {إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى} [العلق: 6 ، 7].

الملاحظة الثانية: عدم إمكانية الفصل بين الحاجات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلا من الناحية الأكاديمية الشكلية، ومن باب التغليب، إذ تكون بعض الحاجات متعدية إلى سائر المجالات، وتؤثر حاجات كل مجال على سائر المجالات الأخرى، مما يؤكد ضرورة الالتفات إليها جميعاً في ذات الوقت، مع البدء بالأهم قبل المهم، وفق ضرورات ما هو كائن وأولويات ما يجب أن يكون.

الملاحظة الثالثة: أن لتعز جملة من الخصوصيات التي جعلتنا نخصها بهذه الورقة، لا علاقة لها بالعصبيات المناطقية التي تستعر الآن حتى في تعز نفسها، وأهم هذه الخصوصيات التعزية:

1- أنها المحافظة الأولى في عدد السكان على مستوى سائر المحافظات، والثانية في الكثافة السكانية بعد محافظة إب. ولأنها تتوسط اليمن جغرافياً ولعوامل أخرى عديدة؛ فإن سكانها خليط متجانس من سائر المحافظات، ومن ثمة فإنها نموذج مصغر للمجتمع اليمني برمته.

2- أنها أقدم محافظات الشمال في الانفتاح على العالم الخارجي، عبر بوابة عدن ، أيام الاحتلال الإنجليزي، ومن ثم صارت سباقة في تحصيل العلم وطلب الرزق، مما أدى إلى بروز بيوتات مالية كبيرة فيها بعد ذلك.

3- أن أبناءها هم الأكثر انتشاراً داخل محافظات اليمن، والأكثر شهرة خارجها.

4- أنها أول من فجرت ثورة 11 فبراير 2011م ، حيث انطلقت الشرارة الأولى منها ، ولهذا نالها نصيب الأسد من جرائم النظام الصالحي الذي اندحر رأسه ولم يسقط، بل ظل يحيك المؤامرات، ويثخن الكيد، ويتربص بالثوار الدوائر.

5- أنها تحتوي على عدد كبير من بقايا النظام المتهاوي وفلوله الفاسدة، من المنتفعين منه الذين أثْرَوا أيامه ثراء فاحشاً، ولم ينفضّ عنه أكثرهم، إذ ليسوا من أصحاب العلم الذي تدفعهم عزته بعيداً عن الطاغوت، ولا من كرام القبائل الذين تدفعهم شهامة القبيلة للانشقاق عنه ولاسيما بعد انتهاكه لسائر القيم الدينية والأعراف القبلية كقتله للنساء.

وفي المقابل ينتمي إليها عدد مقدر من قيادات الثورة وصُنَّاع الوعي والتغيير. وهذا يضيف إليها خصوصية أخرى.  

6- كثرة الروافد الراكدة فيها في جانبي الثقافة والسياسة، والتي تحمل إمكانات التشكل والتحول إلى وقود لثورة مضادة، مثل المتساقطين على أحزاب المشترك، وتجار الثقافة ومحترفي الارتزاق السياسي. وقد عمل هؤلاء على خلط الأوراق، وكان هؤلاء أحد أسباب إحراق ساحة الحرية، وإنهم اليوم مع الحوثيين وفلول صالح يقفون أحجار عثرة أمام قطار الثورة حتى لا يصل إلى محطته المبتغاة.

7- وجود فوارق كبيرة بين أهالي تعز، اقتصادياً واجتماعياً، أكثر من أي محافظة أخرى، مما يعني وجود فجوات عميقة في جُدُر المجتمع التعزي، ومن مظاهر وآثار هذه الفوارق أن أغنى أغنياء اليمن من تعز وأفقر فقرائها من تعز.

8- بروز ما تسمى بالعُقدة اليزنية ـ وهي عقدة وطنية عامة ـ عند أبناء تعز أكثر من غيرهم، ليس فقط على مستوى الخارج بل حتى على مستوى الداخل اليمني، حيث يشعر قطاع عريض من أبناء تعز بعقدة النقص أمام مواطني محافظات أخرى، ولهذا فإن أكثر دوائر السلطة في تعز ظلت تُملأ في العقود الماضية من خارج تعز.

ويبدو أن السبب الرئيسي في ظهور هذه الظاهرة هو محاولة أبناء المحافظة مبكراً العبور إلى المجتمع المدني المتحضر، لكنهم قبل أن يصلوا إلى التكوينات المدنية الحديثة، والروابط العصرية المتحضرة، وقبل أن يتشكل الوعي الجمعي الإيجابي لديهم كانوا قد مزقوا أواصر العشيرة وروابط القبيلة، وحطم أكثرهم أعراف القبيلة بما فيها بعض الأعراف الإيجابية، في تلك الأثناء كانت العصابة الحاكمة وأدواتها من مثقفي السوء قد قاموا بما يشبه القرصنة ضد سفينة تعز المبحرة نحو المدنية، فلم يستطع كثيرون العودة إلى شواطئ القبيلة ولم ينجحوا في الوصول إلى ضفاف المدنية، مما أبرز ظاهرة الفردية، حيث يسعى الفرد لتحقيق مصلحته بعيداً عن المصلحة الاجتماعية، وأجّج السلطويون هذه الظاهرة بالمال السياسي الذي يسرق الولاءات، ويختطف الكوادر ويخطف الأبصار، ويقتل الكفاءات عبر شراء الذمم بأموال الدولة.

     في هذا الجو الموبوء تنعدم الثقة بين الأفراد، ويسيطر الشعور بالمؤامرة على حس كثيرين، مما يمثل بيئة مثالية ومرتعاً خصباً للفاسدين المتسلحين بإمكانات الدولة ، لكي يظهروا عمالقة وسط أعداد كبيرة من الأقزام، وهذا ما يفسر وصول كثيرين ممن حكموا تعز في العقود الماضية إلى مناصب مرموقة في الدولة، وعلى رأسهم علي عبدالله صالح الذي اشتدّ عودُه في هذه البيئة الفاسدة، حيث تعلّم كيف يجعل ملْمَسَه ناعماً وسُمَّه ناقعاً ، ومن تعز انبعث كالأفعى، وسط تلميع المنافقين وتزيين الأقزام الذين أظهروه كعملاق وصاحب قدرات خارقة، مما مكنه من الوصول إلى سدة الحكم خلال شهور قليلة!

ما هي الحاجات السياسية لتعز؟

تشتد حاجة تعز إلى جملة من الحقوق والمتطلبات السياسية، يمكن إجمال أهمها على النحو الآتي:

أولاً: تحقيق العدالة الناجزة:

توجد في تعز ـ كما أسلفنا ـ فجوات وفوارق كبيرة ، لا يمكن ردمها إلا بالإسمنت المسلح الذي توفره العدالة الاجتماعية، وهذا يستدعي جملة من الأمور، وهي:

1- إعلان الثورة على الفقر وعلى الفوارق الطبقية:

وذلك من خلال جملة من القوانين والإجراءات العملية والتوعية الثقافية والدينية. ووفق إحصاءات حكومية فإن 60% من اليمنيين عامة يعيشون تحت خط الفقر، وتصل هذه النسبة في إحصاءات بعض المنظمات إلى 80% ، فكيف الحال في تعز التي تتنافس هي والحديدة على المركز الأول بين أفقر محافظات اليمن وفقاً لإحصاءات وزارة التخطيط لأعوام ماضية؟!

الجدير بالذكر أن تعز تضم أكبر عدد من شريحة السّود المهمشين التي يُعرف حالها من الاسم الذي يطلقه المجتمع عليها وهو "الأخدام"!.

2- إعلان الحرب على الأمية الأبجدية وإزالة الأوضاع التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق عدالة التعليم.

وإذا كان الانطباع السائد بأن تعز هي المحافظة الأكثر تعليماً ، فإن ذلك زاد الأمر سوءاً والطين بلة، إذ يعاني بعض أبناء هذه المحافظة من أمية مُقنَّعة، حيث يتسرب كثيرون من التعليم في مراحله المختلفة ويحسبون أنهم متعلمون، ومن المعلوم أن التعليم المنقوص هو جهل مركب!

ثم تأتي الأرقام بالفاجعة لتعز، ففي آخر تعداد لسكان اليمن ، أظهر ذلك التعداد أن 41% من سكان مدينة تعز لا يقرؤون ولا يكتبون ، فكيف بالأرياف؟!

3- استكمال البنية التحتية لتعز:

إذا قارنا تعز الآن بما كانت عليه قبل ثلاثة عقود، سنجد أنها أصبحت أكبر حجماً، لكنها أكثر تخلفاً، فقد تراجعت كل الخدمات ، وتخلّفت سائر البنى التحتية، وعلى سبيل المثال ، كان مطار تعز أكثر ازدهاراً، وكان ميناء المخاء أكثر حيوية، أما المياه والكهرباء والتعليم فلا مجال للمقارنة، إذ يمكن اعتبار تعز منطقة كارثة إنسانية ولكنها ليست طبيعية، إذ لم تدخل أكثر من ثلث أحياء المدينة ضمن شبكة المياه، أما الأحياء المرتبطة بالشبكة فلا تأتيها المياه إلا كل بضعة أشهر، مع اختلاف نسبي يقرره الفساد نفسه الذي أوصل المدينة إلى هذه الدركة من التخلف، حيث جعلها مجرد قرية كبيرة، ومع ذلك ظل يُمنِّيها بأن تصبح عاصمة ثقافية لليمن!!

ولهذا فإن المحافظة بحاجة إلى خطة إنقاذ سريعة، ثم إلى خطة استراتيجية للتطوير، تقوم بتوسيع المطار والميناء، وإصلاح التعليم كماً ونوعاً، وتُوجِد كهرباء خاصة بالمحافظة ، وتبني بنية تحتية تليق بإنسانها، وعلى رأسها الجامعة التي لا تُعطى إلا الفتات من ميزانية البلد، ومايزال نصيب الأسد من هذا الفتات يذهب إلى جيوب الفاسدين أنفسهم الذين قامت الثورة ضدهم!!

4- تجفيف منابع البطالة:

يوجد في تعز عشرات الآلاف من خريجي الجامعات الذين لا يجدون أعمالاً، ويعاني أضعافهم من ممارسة حرف لا تتفق مع تخصصاتهم العلمية، وبجانب البطالة السافرة، هناك البطالة المقنَّعة، حيث يستلم الآلاف مرتبات بدون أي أعمال يقومون بها ، فقط بسبب الفساد والمحسوبية، ولو ألقينا نظرة على أرقى قمة في هرم السُّلّم التعليمي وهو جامعة تعز لرأينا فيها العجب العجاب!!

ثانياً: تجفيف المستنقعات الصالحية:

خلال ثلاثة عقود عجاف ، أوجد المخلوع علي عبدالله صالح وعصابته الحاكمة ثقافة آسنة عفنة، نجحت في تأسين الوطن وتعفين البلاد ، وكالعادة كانت تعز ذات حظوة بالغة، حيث انتشرت في أصقاعها عدد من المستنقعات الآسنة ، أهمها:

1- شيوع التقاليد القبلية المختلة:

كانت تعز قد أمخرت بسفينتها ـ كما أسلفنا ـ نحو المجتمع المدني، إلا أن الأوضاع التي خلقها صالح جعلتها تمسك بقشور المدنية، ثم تعود لتأخذ أسوأ ما في القبيلة من أعراف، ومنها الثأرات، وتجاوز القوانين، وتصفية الخلافات بالقوة، والدخول في حروب مجنونة على أتفه الأسباب، ومن ذا يصدق أن حرباً قبلية ـ على سبيل المثال ـ تندلع داخل مدينة تعز وعلى أطرافها، ليسقط فيها أربع ضحايا كلهن من النساء؟ ما علمنا بهذا في الملة القبلية إنْ هذا إلا اختلاق!

2- استفحال الثقافة المصلحية الفردية، بعيداً عن المصالح العامة والأخلاق الدينية الرفيعة والأعراف الاجتماعية الطيبة، مما أدى إلى بروز قوافل من السلبيين اللاهثين وراء المصلحة الخاصة ولو على نواصي المجتمع!

3- بروز ظاهرة السطو على الأراضي العامة والخاصة بالقوة أو بقوة "البَهررة"، وتطبيق النهج الإبليسي الذي يشارك الناسَ في أموالهم وأولادهم، بإصرار البطانة الصالحية على مشاركة المستثمرين ورجال الأعمال في مشاريعهم وممتلكاتهم تحت ذريعة "الحماية".

4- التعامل مع الوظيفة كغنيمة واستثمار، حتى أُثر عن عبد القادر باجمال ـ رئيس حكومة صالح الأسبق ـ بأن "من لم يغْتنِ في عهد صالح فهو غبي.."! وبالطبع فإن تعز هي البقرة الأغزر حليباً، والأوفر لحماً!

5- حضور الوجه السلبي للدولة بقوة، وغياب الوجه الإيجابي لها، ولأن تعز هي الأكثر طاعة واستكانة، فإنها الأكثر واجبات والأقل حقوقاً، حتى بعد الثورة.

6- المتاجرة بمؤسسات المجتمع المدني، حيث تخرَّج من مدرسة صالح كثيرون ممن يتاجرون بكل شيئ، بما في ذلك مئات المؤسسات المحسوبة على المجتمع المدني والتي ارتزق أصحابها من ورائها ولم يقدموا للمجتمع شيئاً ذا بال في المقابل، فأساؤوا إلى الثقافة المدنية وصورة المجتمع المدني.

7- الانفلات الأمني المنظم الذي تديره غرف مظلمة في تعز، ويحركه صالح من صنعاء بالريموت كنترول، والذي أدى إلى ظهور كافة الجرائم في تعز بصورة ليس لها مثيل في أي محافظة يمنية خلال هذه الفترة، مثل:

- الاختطاف القبلي لتحصيل بعض المطالب، مثلما حدث بين شبوة وتعز، بل وبين بعض مناطق تعز نفسها كما حدث بين شرعب وماوية.

- تهريب الأسلحة والمخدرات وسائر الممنوعات.

- الاختطاف الجنائي والاغتصاب والقتل وإخافة السبيل، كما حدث للطفلة مرام.

- انتشار المظاهر المسلحة في كافة المناسبات والأحوال، كالأعراس.

- التمرد على أوامر الحكومة واقتحام المقرات الحكومية، كما حدث بالنسبة لفرعي التربية والكهرباء.

- قيام بعض المجاميع العسكرية بدعم عصابات للتقطع وإخافة السبيل، والتدخل للإفراج عنهم بالقوة، كما حدث من بقايا الحرس الجمهوري الذين حاصروا إدارة أمن المحافظة وأطلقوا عليها النار من أجل إطلاق مجرمين وذلك في شهر مايو الفائت!.

- قطع الشوارع والطرقات من أجل الحصول على حقوق، سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة.

- اندلاع حروب قبلية وقتل الأبرياء في كافة أنحاء المحافظة، ابتداء من مدينة تعز نفسها وصولاً إلى شرعب وجبل حبشي وماوية وصبر والحجرية.

- القتل في وضح النهار والاغتيالات المجهولة الأسباب والأطراف، وتقييدها ضد مجهول.

- انتشار ميليشيات وعصابات مسلحة تخيف السبيل وتقلق السكينة العامة، وتعيث في تعز فسادا وتُنهكها سلباً ونهباً.

كل هذه المستنقعات بحاجة إلى تجفيف، حتى يطعم الناس الأمن، ويتذوقوا طعم الثورة والتغيير.

8- الكشف عن حقيقة ما حدث لمشائخ تعز في الحجرية في سبعينيات القرن المنصرم، وماحدث في شرعب وشمير من مظالم واغتيالات وتخريب إبان تلك المرحلة.

ثالثاً: ترشيد العمل السياسي وإنعاش الأحزاب:

من خصوصيات تعز أنها قاعدة انطلاق العمل السياسي والمهد الذي ولدت فيه أكثر الأحزاب، ولهذا فإن الأمر يحتاج إلى جملة من المعالجات، أهمها:

1- تقويم التدافع السلبي السقيم الناتج عن وجود أتباع لكل الأحزاب، وتمرد كثير من القواعد على قياداتها نتيجة شيخوختها، والعمل الحثيث على إخراج المشترك من غرفة الإنعاش بعد إنعاشه عبر جملة من الحوارات والإجراءات والتدابير.

2- تضييق الخناق على الأمية السياسية المركّبة في تعز، حيث يفتي حتى الغوغاء في أعقد الأمور السياسية، ويندفع كثيرون إلى ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وتسفيه الآخرين، مما جعل ساحة العمل السياسي أشبه ببيت العنكبوت. وهذا يستدعي توسيع مساحات الوعي الفكري والسياسي.

3- محاربة الارتزاق السياسي، وهي الظاهرة المنتشرة في عموم البلاد كالسرطان؛ نتيجة الجهل والفقر، لكنها تشتد في تعز، بسبب الفقر وبسبب رمزية تعز كمنطلق للأحزاب ومثوى للعمل السياسي.

ولهذا فإن تعز تعاني من إرهاق المال السياسي الذي يصُبُّه علي صالح وذيوله، ومن جروح المحاولات الإيرانية القوية لاختراقها عبر ملاين الدولارات وإقامة جسر جوي إلى طهران، وتوزيع الأسلحة والوعود، والتحريض المستمر ضد الثوار من قبل أذيالها الذين استأجرتهم للنُّوَاح على الثورة، لكن الواعين يدركون الفرق بين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة!

4- قيام الأحزاب بعمليات نقد ذاتي واسعة، وإجراء مراجعات وإصلاحات عريضة، وصولاً إلى اكتشاف ومعالجة الأخطاء وأوجه القصور، وإجراء انتخابات ديمقراطية شفافة وحقيقية داخل الأحزاب، تسمح بتشبيب القيادات وتجاوز الانشقاقات ورأب الصدوعات، وتطوير الأحزاب حتى تنتقل من دائرة صنع المشاكل إلى ساحات وضع الحلول لها وخدمة المجتمعات.

5- الخلاص من آفات السياسة المصرية، وهو ما سنخصص له الفقرة الآتية.

رابعاً: تخليص تعز من آفات ورذاذ السياسة المصرية:

بسبب المكانة التي تحتلها مصر في الوعي العربي عامة واليمني خاصة، فإن علل وأكدار السياسة المصرية تتسلل إلى الوعي اليمني بسهولة ولاسيما في تعز، حيث تجد لها مرتعاً خصباً، مما أبرز عدداً من الآفات التي يجب التخلص منها، وهي:

1- العداء الأعمى للإسلاميين، نتيجة عوامل موضوعية وذاتية، ومنها التعبئة الشديدة والتحريض المستمر طيلة عقود ضد الإسلاميين من قبل الفراعنة، مقابل ضعف إعلامهم الهزيل.

2- اتباع نهج المعارضة للمعارضة، ولاسيما ضد الإسلاميين منذ وصولهم إلى السلطة، حيث الخوف الكبير من نجاحهم في تحقيق آمال الجماهير، بحجة أن ذلك سيؤدي إلى زواج الإسلاميين بالسلطة زواجاً كاثوليكياً!.

3- حضور البعد الخارجي عملياً بقوة ، والمتاجرة بالحديث عنه ومهاجمته نظرياً، واتهام الخصوم بالعمالة له، بما يجتمع في هذه المعادلة من عقدتي النقص والاستعلاء، الشعور بالنقـص أمام خصوم الخارج والاستعلاء أمام خصوم الداخل!

4- الانطلاق من عقدة التفسير التآمري للأحداث، وهي عقدة متممة للعقدتين السابقتين، حيث الألسن مع تعز والسيوف عليها، وحيث تكثر الأقوال وتقل الأعمال حتى كادت تعز أن تصبح "ظاهرة صوتية"!

5- اشتعال فتيل الثورة المضادة بصورة قوية ومبكرة، ومن خلال خبرتي بما كان يعتمل في قلب ساحة الحرية في تعز، أعتقد جازماً أن وجود بوادر هذه الثورة المضادة داخل الساحة نفسها، كان أحد العوامل الأساسية التي جرّأت المجرمين على اقتحام ساحة الحرية وإحراقها في 29 مايو الأسود (2011م).

خامساً: تطهير الجهاز الحكومي من أدناس الفساد الصالحي:

إن ثلاثة عقود عجاف من الفساد المنظم والعبث المبرمج بمقدرات البلاد، مكّنت غول الفساد من التهام الأخضر واليابس، ولهذا فإن الثوار ورثوا تركة ثقيلة، حيث يجب عليهم تخليص تعز من بين براثن الفساد ، وانتشالها من مستنقعاته ، وتحريرها من أغلاله، فقد جعلها صالح منحةً يعطيها لكبار الفاسدين، نظراً لكثرة لحمها وقلة عظمها، ولوفرة وردها وقلة شوكها.

مما يجدر ذكره أن 97% من الجهاز الإداري للدولة في تعز كان قد استأثر به المؤتمر الشعبي ومازال، وهو ـ مع احترامنا لفكره ـ تحالف عصبوي بين شُلل من المنتفعين والفاسدين إلا من رحم ربي وقليل ماهم.

والغريب أن الفساد ازداد هُياجه مع الثورة ، انطلاقاً من المثل الشعبي اليمني: "إذا كنت رايح كثّر بالفضايح"، فهناك ميزانيات ابتُلعت في أكثر المؤسسات بما فيها أرقى مؤسسة في تعز وهي الجامعة التي أعرفها جيداً، والتي أزكم فسادُها الأنوف ، وكان في بداية الثورة قد تراجع أما الآن فقد تصاعد مثل الدخان في مقالب القمامات!

ومن أهم صور الفساد الواضحة وجود آلاف الموظفين بلا وظائف، مقابل وجود وظائف بلا موظفين، فعلى سبيل المثال هناك مدارس في مدينة تعز فيها عشرات المستشارين والمدرسين والإداريين الذين ليس لهم أي عمل، بينما هناك مدارس في الأرياف خاوية على عروشها تعاني الفاقة والحرمان!

وهناك مديريات فيها أعداد مهولة من الموجهين والمستشارين جلهم من الفاسدين، وكمثال على ذلك ـ في مديرية ماوية ـ يحتوي القطاع التربوي على قرابة 1400 عضو ، منهم أكثر من 350 موجهاً أي نحو 25% ، ومع ضخامة هذا العدد فإن أكثرهم بحاجة إلى من يوجهونهم لأنهم من المتردية والنطيحة وما أكل السبع!

سادساً: ترشيد الثورة وإعادة ترتيب صفوف الثوار:

بسبب تراكم الفساد وتحوله إلى ثقافة، وبسبب تعدد فصائل الثورة، وتسيُّد العقلية الفردية وضعف الحسّ الجمعي ، فإن الثورة بحاجة ماسة إلى ترشيد واسع، وتحتاج الصفوف إلى إعادة ترتيب وتموضع.

ومن أهم الحاجات في هذا الإطار:

1- عمل مراجعة للماضي لاكتشاف الثغرات المفتوحة التي تسللت منها الثورة المضادة ، ومعرفة الثغور الخالية من حراس الثورة والتي تحتاج إلى تغطية.

2- تطهير صفوف الثوار من المنتفعين والمتسلقين ومن الأقزام الذين لم يرتفعوا إلى مستوى الثورة السامق ، وإعلان البراءة منهم والانفكاك عنهم ، حتى لا تُستغل أخطاؤهم كإعلانات تقوم بها الثورة المضادة لتسويد وجه الثورة الناصع البياض.

3- إقامة حوارات عميقة بين الثوار ، ودعوة الجميع للنأي بأنفسهم عن ادعاء احتكار الحقيقة المطلقة وتسفيه الآخرين ، وذلك بتكثيف فعاليات الحراك الفكري في أوساطهم؛ لتوسيع مساحات الوعي وتقوية عرى الائتلاف، وتكسيب الثوار آداب الحوار وفقه الاختلاف.

4- قيام الكيانات الثورية والمجلس الثوري للمحافظة بإيجاد مخططات لارتياد المستقبل ، تضمن ديمومة الثورة واستمرار النضال ، وتكفل تحقيق أهداف الثورة كافة ، دون تعطيل أي مرفق أو تعطل أي شخص عامل عن عمله ووظيفته ، مع الاستفادة في وضع هذه الخطط من كافة الخبرات والكفاءات في مختلف حقول المعرفة وسائر ميادين الحياة.

5- تبني ثورة ثقافية فكرية عميقة ، تستنقذ المجتمع من وهدة التخلف ، وتفضي إلى تجفيف منابع الفساد ، وحرق مفردات القابلية للاستبداد.

وينبغي أن تكون هذه الثورة الثقافية تدشيناً حقيقياً لدور تعز كعاصمة للثقافة اليمنية ، وهذا ما ينقلنا إلى الفقرة الآتية.

سابعاً: تكثيف الضغوط لإيجاد مقومات العاصمة الثقافية:

قبل بضعة أسابيع أعلنت الحكومة عن تدشين تعز عاصمة للثقافة اليمنية ، دون إيجاد المقومات المطلوبة ، ومما يجب توفيره لتعز حتى تصبح عاصمة حقيقية ، لا مزعومة ، للثقافة ما يأتي:

1- إيجاد بنية تحتية للثقافة ، وهي: مسارح محترمة ، دور نشر راقية ، مطابع ذات جودة عالية ، حدائق ذات بهجة ، متاحف تأريخية ومتنفسات طبيعية ، نوادي ومنتديات ثقافية وغيرها.

2- تكثيف الفعاليات الثقافية التي توسع مساحات الوعي ، وتضيق السبل على ضيق الأفق.

3- الخلاص من العصبية المناطقية البغيضة التي بدأت تطل برؤوسها الشيطانية في تعز ، بدعم كامل من بقايا المخلوع ، فإن الثقافة والعصبية كالماء والنار لا تجتمعان ، ثم إن العصبية دمار للوطن ، وستكون تعز أكبر ضحاياها لأن أبناءها منتشرون في كل المحافظات.

4- تجفيف منابع الشعوذة والدجل والكهانة التي انتشرت في تعز أكثر من غيرها ، تارة باسم الطب الشرعي ، وتارة ثانية باسم الطب البديل بل وتحت راية الطب النبوي ـ للأسف الشديد ـ في بعض الأحيان ، وتارة أخرى ضمن طقوس ما يسمى بالتصوف.

5- استنقاذ التعليم من ترديه المريع ، والقيام بعملية إصلاح شاملة له ، ومن خلال مكانتي كأستاذ جامعي وخبرتي بواقع التعليم في إب وتعز والحديدة وعدن وصنعاء يبدو لي أن التردي في تعز هو الأسوأ ، وقد صنعتُ ما يشبه البحث للتحقق من هذا الأمر.

6- تدئيب العمل من أجل الخلاص من كافة الأميات الثقافية والسياسية والعلمية التي تعصف بالواقع التعزي وتجعله قاعاً صفصفاً وغثاءً أحوى.

7- حماية الآثار القائمة وحسن تسويقها ، وهي القلاع والحصون والكهوف والمساجد التاريخية كمساجد: معاذ بن جبل في الجند وابن علوان في يفرس ، والعيدروس في المخاء ، ومسجدي المظفر والأشرفية في مدينة تعز. إضافة إلى البحث عن الآثار المطمورة في الأماكن والقلاع التاريخية العتيقة.

8- إبراز واستثمار السياحة الطبيعية المتنوعة في تعز ، بين الجبال الشامخة في صبر وجبل حبشي والصلو وسامع وسورق ، والسواحل المتراوحة بين الخضراء والرملية والحجرية ، والقيعان كقاع الجند والوديان والهضاب والتلال والروابي والسهول، والغيول والعيون والسوائل.

ومن المفيد عمل محميات طبيعية في بعض المناطق كالضباب وورزان.

9- إبجاد مؤسات فنية متكاملة للنهوض بالفنون ، كفرق النشيد والمسرح ، والاستوديوهات وشركات الإنتاج والتسويق ، وستتضح أهمية الفن عندما يرى المرء اكتظاظ مدرجات وساحات ميدان الشهداء في تعز بالحضور الذين تزاحموا لمشاهدة منشدي قناة كناري للأطفال أو شقيقتها قناة طيور الجنة ومنشديها.

10- الاهتمام بالكتاب: تأليفاً ، وطباعة ، وتوزيعاً ، وقراءة ، ومما يطلب في هذا السياق إيجاد معرض دائم للكتاب بأسعار مغرية ، وإيجاد الهيئة العامة للكتاب مكتبة عامة للقراءة ترفد الثقافة بأهم المراجع.

11- العناية بالجوانب الاقتصادية لتحسين معيشة السكان ، فإن الجائع ينشغل بلقمة العيش عن الثقافة.

12- وضع الأكْفَاء لا الأكِفَّاء على رأس الهرم الثقافي لتعز.

13- دعم وتشجيع المؤسسات والمنتديات الثقافية والفنية القائمة ودفعها إلى الأمام بالتشجيع المعنوي والرفد المادي. وكذا احتضان ودعم مراكز التنمية البشرية التي بدأت تلعب دوراً إيجابياً في ترشيد الوعي وإكساب الشباب الكثير من المهارات الفردية والاجتماعية.

ثامناً: العمل الحثيث من أجل وصول تعز إلى شواطئ المدنية وضفاف الثقافة:

إن تعز تعيش بوضعها الراهن في منزلة بين المنزلتين إذ لم تسمح لها الأوضاع المتخلفة بالوصول إلى ضفاف الثقافة وشواطئ التحضر والمدنية ، ولم تستطع العودة إلى الجوانب الإيجابية في القبيلة ، ولهذا فإنها تحصد آثار انتقام العيش بين هاتين المنزلتين، وقد أبرزت الفترة الماضية الكثير من الفواجع فيها ، بما في ذلك إزهاق الأرواح الذي احتلت فيه المركز الأول على مستوى المحافظات اليمنية.

ولتبيين تداعيات ومخاطر العيش في مثل هذا المناخ المسموم الذي افتقد قوانين المدنية الراقية وأعراف القبيلة الحميدة، فسنضرب المثل بمنطقة شرعب.

شرعب هي المنطقة الأولى في اليمن من حيث: عدد أساتذة الجامعات ، وعدد الصحفيين والإعلاميين ، إضافة إلى وجود أعداد كبيرة من قادة الأحزاب ورواد الثقافة ، ورموز مؤسسات المجتمع المدني والناشطين الحقوقيين ، وعلى رأسهم العربية الوحيدة التي حصلت على جائزة نوبل للسلام الأستاذة توكل كرمان.

ومع ذلك فإن هذه النخب لم تشفع لهذه المنطقة التي يعشعش فيها التخلف بشكل ماحق ، إذ أنها أسوأ منطقة في تعز ، ومن أسوأ المناطق في اليمن ، من حيث:

- اشتداد العصبيات القبلية والمناطقية ، حتى أن مشكلة بين قبيلتين من قبائلها (بنو عون وبيت الدعيس) أدت إلى الإطاحة بقرابة 300 إنسان بين قتيل وجريح.

- شيوع جرائم القتل والخطف لأتفه الأسباب، ووصل الأمر في الفترة الأخيرة إلى اختطاف السواح الأجانب.

- انتشار السلب والنهب ، وقد أخبرني أحد قادة الثورة الميدانيين أنهم أحبطوا محاولات لسرقة الأموال العامة والخاصة واستردوا بعضها أيام المواجهات التي اندلعت بين الثوار وقوات صالح على إثر إحراق ساحة الحرية ، وأغلبها (أي المسروقات) كانت متجهة إلى شرعب.

- شيوع ظاهرة السطو على الأراضي، وانتزاع الحقوق بقوة السلاح، وبقطع الطرق ، وخطف الآمنين.

- كثرة المشاكل العائلية ، وتوطن الآفات الاجتماعية، وشيوع الأمراض المزمنة والقاتلة كالسرطان الذي أخبرني بعض الأطباء أن شرعب تحتل المركز الأول فيه بين سائر مناطق تعز.

- بروز ظاهرة الأمية ورداءة التعليم، وقد اكتشفتُ من خلال تدريسي في عدد من جامعات تعز أن مخرجات مدارس شرعب هي الأسوأ بين كل مناطق تعز.

كاريكاتير