يتهيب القلم مهما بلغ احترافه أن يكتب عن العظماء، لكنه يستطيع أن يكون ناقلاً أميناً وصياداً ماهراً لبعض ما سُطّر عن الشاعر والأديب الفقيه المفكر الأستاذ/ محمود حسن الجباري، أحد رموز الحركة الوطنية الإسلامية الأوائل ومفكريها الأفذاذ الآتي من مروج ريمة الخضراء، والحاضر في أواسط القرن الماضي. وهنا ليسمح لي القارئ الكريم أن نرتشف سوياً قطرات مزن عذبة رقراقة عن شاعرنا الجبّاري منثورة على لسان ثلاثة أعلام شامخة في ميدان الفكر والأدب والثقافة والإبداع.. مورداً دررهم بين هلالين، مقتصراً على الربط المنطقي للسياق، لنطلّ من مرصد ثاقب ورؤية منصفة على بعض من جوانب شخصية الدراسة..
في مقدمة رائعة ومنصفة لشاعر الجزيرة وأديب العرب وفيلسوف النضال الإنساني، الدكتور/عبد العزيز المقالح يقرّ بمفاجأته الكبرى وهو يتصفح قصائد ديوان الجباري، متسائلاً "كيف تجاهلته الدراسات والأبحاث الأدبية التي ظهرت عن الشعر المعاصر في اليمن؟، وكيف لم يأخذ هذا الشاعر المبدع ما يستحقه من المكانة والإشادة؟" معتبراً إياه من أبرز شعراء خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مضيفاً "ولعل ما يبعث على الأسى والحيرة أن هذا الشاعر قد تمكّن في أن يخفي نفسه كمبدع كبير وأن يبقى شعره في الظل بعيداً عن أعين القراء والدارسين، وأن الزهد في الشهرة قد بلغ به إلى هذه الدرجة من التواضع وإهمال الموهبة ونكران الذات، في حين أنه بلا مبالغة واحد من ألمع شعراء هذا الوطن المبدعين المجيدين".. ويستطرد الدكتور في إماطة اللثام عن حقيقة جليّة تعكس سمو ورفعة موضوعات الشاعر الجباري بقوله "كما لم يكن ما يكتبه الأستاذ الجبّاري من شعر حاملاً للقضايا الوطنية والإنسانية فحسب بل كان شعراً ينبئ عن موهبة عالية تعبر عما كانت القصيدة العمودية المعاصرة قد وصلت إليه فنياً وتجديداً موضوعياً ولغوياً).
هذا هو الجبّاري الإنسان، الذي زهد فيما يتسابق عليه جل أهل صنعته ورواد موهبته، وما الشعر إلا قلم مبدع ونص مبدع وجمهور متذوق.. وأعلى درجات نكران الذات هو التواري عن اقتدار..
جل ثروة الشاعر الأدبية هي تراتيل وصلوات في محراب الوطن؛ فهو القائل:
لقد وجدت يراعي في سوى وطني
قزماً كسيراً كليلَ الطرف كسلانا
ذكرته وطني فافترَّ مبتسماً
وانقاد لي طيّعاً سراً وإعلانا
وقد وجدت شعوري راقصاً طرباً
يسيل شعراً ولم أعهده نشوانا
ويؤكد المقالح أن"الشعر في مفهوم الجباري، تعبير وجداني عن أنبل الغايات وأسماها، وانعكاس إبداعي عن الهم الوطني) فيشدو الجباري:
إليك يا وطني شعري لتصهره
مجداً وتشربه حباً وإيمانا
وهاكه قلقاً إن شئت أو أرقاً
ينساب في أعين الغافين أحيانا
إليكه لعناتٍ منك صارخة
بالظالمين وبعض الشعر إيذانا
ويضيف المقالح:
"لقد كان الجبّاري- رحمه الله- شاعراً عربياً بكل ما للكلمة من معنى"
ويتناول المفكر العربي والمثقف الموسوعي الدكتور/عبد الملك منصور نموذج الإنسان في شعر الجباري معترفاً له بالفروسية الأدبية؛ حيث يقول منصور "وجدت نفسي أمام فارس امتلك ناصية البلاغة واقتدر". وهو ما يصف الشاعر نفسه شدواً:
صدَّاح يا شاعراً غنى بألحاني
أنغام حبي وأشواقي وأشجاني
بالله هل صغت شعراً في فواصله
قلبٌ تقطّع أم لحّنت أوزاني؟
تنوح شأن الذي أضحى أسير هوى
وفيمَ تشدو ولست الوالهَ العاني؟!
"ليست هذه الأعمال الشعرية إلا أنغام يؤديها الشعر عبر ألحانه في محراب الفضيلة التي هي وحدها القادرة على تحصين الإنسان من الزلل والكفيلة بشفاء الكبد الحرّى وتغسل صدر المشتاق إلى إنسانية الإنسان.) وهو يصف تقريضاً الشاعر الإنسان:
وما الشاعر الموهوب إلا انبثاقةٌ
سماويةٌ والشعر ما اهتز سامعه
إذا ما بكى أبكى وإن ناح أو شدا
أطارت بحبات القلوب سواجعه
يعير جبان القوم عزماً لدى الوغى
ويجبن إن هاجت قوافيه دارعه
"يعتنق هنا الشاعر رسالة الذود عن الإنسان بسلاح الكلمة، وفي كل هذا لا تطيش مداركه، بل يجمعها ليرصد للقارئ ازدواجية مرة تقوم عليها علاقة الإنسان). ويردف مسترسلاً:
"ولأن التاريخ لا يكذب، فإن شاعرنا يغرينا بدقة التاريخ ويقظته وسموه، متمنياً أن يكون هو التاريخ سعةً وشموخاً وحصانة، وهي معانٍ يوقن الشاعر أنها قرينة بالتاريخ، وهي السبيل إلى تحقيق إنسانية الإنسان" ويخاطب الشباب مستحضراً أمجادهم الغابرة:
طلائع الغد من أبناء حنظلة
وذي "رعين" و"أنمار" و"ذي جدن"
أحلامنا شاخصات صوب كل فتىً
يقتادها راسخ الأقدام في سنن
يبني الحياة بلا زيغٍ ولا ضعةٍ
وليس غير الشباب المؤمن الفطن
"هذا هو الأستاذ/ محمود الجبّاري، شاعراً تواقاً إلى إنسانية رفيعة. أما الجبّاري إنساناً فهو في طليعة أولئك القلائل الذين قالوا لبريق المغريات (لا) عن اقتدار.. التحم بالأرض معتبراً ذلك مجداً ونعم المجد)، كيف لا وهو المغرد:
ما الشعر مهما سما نظماً سوى كلمٍ
صيغت إذا لم تكن للنبل برهانا
والفضل والنبل والعليا مجملها
لفظٌ إذا لم تكن للمرء تيجانا
والشعر إن لم يكن أوضاعه صنعت
للمجد كان تفاعيلاً وأوزاناً
ويصف سمو نفس الأديب وزهده عمى في يد الناس وجراب الحكام:
"وثمة ميزة تحلى بها ألا وهي مقاطعته ونسيانه بلاط الحكام، والذي عادة ما يضفي على الشاعر لمعاناً زئبقياً ربأ الجبّاري بنفسه عنها، وظل يتلمس قداسة القيم الإنسانية ومواطئها ومواطنها) فالجبّاري متعلق برب السموات والأرض فيتضرع في ملكوت الخالق:
يا رب هب لِيَ نفساً تطمئن إلى
رضاك أنجو بها من لفحةِ الحطم
ورحمة الله أرجو وهي واسعةٌ
ولن تضيق بقلبٍ ضارٍع عَتِمِ
ولن تضيق بمن أَمّوا مناهلها
وحبلهم بعُراها غير منفصم
في تسابيح إبداعية في محراب محمود يرتل رائد الإبداع وعاشق الحرف وساقي بذور التميز، الأديب الشاعر الدكتور عبدالولي الشميري، متفقاً مع الدكتور المقالح حول السمة الأبرز لروح التواضع الذي تحلّى بها الشاعر الجباري، قائلاً:
"ويبدو أن هذا التواضع كان قد أصبح طبيعة متأصلة في شاعرنا، وأن الزهد عن مطامع الحياة كان قد صار أيضاً جزءاً من التزاماته الأخلاقية التي نشأ عليها وتنامت عبر سنوات العمر" ويصف لآلئ الجباري:
"وكم كانت قصائده الساحرة رقة وجمالاً، الفاتنة جزالة ولفظاً ومعنى، تولد بين يدي وكأنها سيب العارض الهتن، ساحاً غدقاً، ومع ذلك يحاول التقليل من جمالها وفتنتها، ويعدني بسواها". ويقف عند الصدق الفني والقدرة الإبداعية للشاعر بقوله "فإن لكل قافية أو بحر، أو وتر أو موسيقى في قواعد الشعر الفصيح مكاناً بارزاً في هذا الديوان، دون تصنع من الشاعر، ودون استئذان من محسنات البديع".
وأنا أختتم سطور هذه الإطلالة هل لي أن أعتذر للقارئ الكريم لأني خالفت المألوف وقفزت على المعتاد في تناول السير التي تبدأ عادة بالنشآت والتكوين مروراً بالمحطات الهامة والمحورية، ونقلاً للخارطة الزمنية للأحداث والمواقف، وكذا أطمع أن يعذرني من نقلت عنهم ثلاثي الأدب والثقافة والإبداع هذه المخالفة كضرورةً حتمية اقتضتها فضيلة الفيض البلاغي والورع الروحي لدى رائد القوافي وسلطان ناصية الشعر الأستاذ محمود الجبّاري كون مباشرة تناول سيرته وأدبه ونضاله من كاتب مغمور مثلي هي جناية لا تغتفر بحق الراحل العظيم، وغبن في حق القارئ الكريم أن يتلقى الشمس من شاقوص ضيق، وليتسنى لي تناول الأبعاد المتعددة والإشراقات المتتالية لشخصية الجبّاري كمناضل صلب وأديب مبدع وفقيه أريب ومؤرخ ناقد على أرضية صلبة شيّد مداميكها فرسان الكلمة وملوك الحرف ورواد الإبداع في يمن العلم والأدب والحضارة والتاريخ.
والله من وراء القصد.
المقالات الاقدم:
- د. المرتضى بن زيد المحطوري لـ(اليقين): الشعب ثار لينتزع حقوقه من السفهاء والمبادرة الرئاسية مرفوضة - 2014/09/06
- محاصرة وزير يمني داخل مكتبه لمدة (5) ساعات متواصلة - 2014/03/03
- للرفاق المتحوثين: عن الحركة الحوثية.. - 2014/02/25
- واقع التعليم العالي والبحث العلمي في اليمن - 2014/02/25
- الرئيس وحولان كاملان من الغموض - 2014/02/25
أحدث المقالات - من جميع الأقسام:
مقالات متفرقة:
المقالات الأكثر قراءة:
- منظمة الصحة العالمية : 10 آلاف قتيل و60 ألف جريح حصيلة حرب اليمن - 2018/12/10 - قرأ 127117 مرُة
- اليمن .. معركة جديدة بين قوات هادي والحراك الجنوبي في شبوة - 2019/01/09 - قرأ 26806 مرُة
- غريفيث لمجلس الأمن: هناك تقدماً في تنفيذ اتفاق استوكهولم رغم الصعوبات - 2019/01/09 - قرأ 26098 مرُة
- تبادل عشرات الأسرى بين إحدى فصائل المقاومة اليمنية والحوثيين في تعز - 2016/06/01 - قرأ 20467 مرُة
- المغرب يكشف عن "تغير"مشاركته في التحالف - 2019/01/24 - قرأ 17775 مرُة