هل ثمّة من قدّم صورة أوضح وأسمى وأبلغ من تلك الصورة التي قدمها الشاعر عبدالله البردوني عن مشاعر اليمنيين تجاه نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم في قصيدته (مولد النور)؟؟
كم حشد البردوني من جمهور؟ وكم أقام من احتفالات؟ وكم وزّع من لوحات؟ وكم خاصم وعادى وحارب وقاتل كي تصل تلك الصورة التي رسمها إلى مشاعر كل مسلم، كلوحة بديعة تزرع أكليل الحب على جيد كل يمني يملك هذه المشاعر الرقيقة تجاه الرسول الخاتم؟؟
لم يكن البردوني قائد حزب سياسيى أو أمير جماعة دينية أو سيد طائفة تهتف بشعارات جوفاء لا معنى لها في الواقع.. لقد كان شاعراً مفكراً، يقاسم شعبه ومواطنيه أحاسيس المعاناة، فيرسمها في قصائده التي تسهم في علاج مجتمع أنهكه الجهل والفقر والمرض.
هذا ما قاله البردوني في ذكرى المولد النبوي:
نحن اليمانون يا طه تطير بنا *** إلى روابي العلا أرواح أنصار
وهذا ما ردده الحوثي في ذكرى المولد:
الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود.. النصر للإسلام
فأيهما قدم خيراً لثقافة اليمنيين ووعيهم؟
كان البردوني نموذجاً للروح والفكر، الذي يمكن أن يصنع شيئا إيجابياً في بقعة جغرافية مرتمية في أحضان بحرين وصحراء مدججة بالجبال وبالمرتفعات وبالتاريخ الذي رسم ملامح اليمن عند الآخرين كشعب يعتقد أنه وارث حضارات مندثرة، لكنه يجهل النقطة التي يقف عليها الآن. لم يكن الشاعر البردوني ينتمي لتيار معين، لكنه كان ذلك اليمني البسيط، الذي ارتقى بثقافته، فأصبح مَعْلماً من معالم الإبداع العربي التنويري.
إنه تحدي الوعي بموقعنا الثقافي والمعرفي والحضاري، الذي إن فهمناه استطعنا أن ننطلق من هذه النقطة إلى المرتبة التي نريد، وما لم نكن قادرين على خلق وسائل معرفة وتثقيف تناسب المستوى البسيط للناس وترتقي بهم تدرجاً باستخدام أنواع الفنون المختلفة فإن كل ما نقوم به من جهد في الجامعات ومراكز الدراسات العليا ومؤتمرات البحث العلمي ووو.. سيكون عصفاً تذروه رياح الواقع البائس، وسيبرز الحوثي بفكره المتخلف كمخلص لشعب يصارع معاناته ويعارك جهله وفقره!
إن العلم المجرد من العاطفة والمرتكز على الجوانب المادية الحسية للإنسان لا يمكن أن يصنع نهضة، فالحاجة إلى المثقف المفكر والشاعر والفنان والقاص والموسيقي مثل الحاجة إلى طبيب القلب والأنف والأذن والحنجرة ومهندس الحاسوب والسيارة والطائرة وعالم الفيزياء والرياضيات، فالفريق الأول متخصص في علاج وتطوير مهارات النفس وخصائص الروح. والفريق الثاني مهتم بظاهر الجسد وتوفير سبل ووسائل خدمته ليس إلا. ولذلك فالظاهرة الحوثية وما بدت عليه من تهليل وتمجيد وتقديس للماضي السحيق ليس إلا نتيجة طبيعية لخطأ فادح كان سببه انصراف التفكير عن الأمراض الباطنة للمجتمع إلى الأشكال والمظاهر.
منذ تأسيس جامعة صنعاء قبل حوالي أربعة عقود ظل التعليم العالي في اليمن يحاول الطيران بجناح واحدة، ولم تجد كلية الفنون الجميلة مكان لها داخل أسوار الجامعة، كما أن الكثير من المبدعين والمفكرين والكتاب لم يجدوا الميدان المناسب لتطوير مهاراتهم ونقل تجاربهم ومعارفهم.
ناهيك عن غفلة وتجاهل للمواهب الإبداعية في جوانب الفنون المتعددة. أما الجامعات الأهلية فقد تناسخت وتناسلت وأنتجت أعداداً كبيرة من حملة الشهائد الذين تزاحموا على أرصفة البطالة، وساهموا في تكريس الحالة النفسية السيئة للمجتمع، الذي يعاني من تعقيدات وآثار الأحوال المعيشية المحبطة للعمل والإبداع.
إن التاريخ والجغرافيا والسكان -بدون ثقافة- عوامل لا يمكن أن تصنع نهضة؛ فالثقافة هي محور الارتكاز في الصعود الحضاري.. وهذه الثقافة لا يمكن أن تصنعها القواعد التعليمية الجافة والنظريات العلمية الثابتة بدون غوص في أعماق النفس البشرية واكتشاف لمعاني الحب والجمال والإنسجام.. وهذا هو دور الشاعر والمفكر والرسام، وعندما ننظر إلى تاريخ النهضة الأوربية في العصرالحديث نجد الحيز الذي شغله المسرح والرسم والأدب في مراحل التحول الكبيرة، وهو ما لم نهتم به كحكومات وكأحزاب وكمنظمات منذ ثورة 62.
كل الممثلين اليمنيين، والذين وقفوا على خشبة المسرح وكل من غنى ورسم ونحت وألّف نوتات الموسيقى في هذا البلد هو خريج الممارسة، وهو المرمي على هوامش التجاهل والازدراء والاحتقار من قيادات المجتمع ونخبه السياسية المختلفة، وعندما يفكر الانسان بمشروع ثقافي وفني، يجد من الصعوبات التي لا حصر لها وأولها جهات الاختصاص، بينما تتكاثر المشاريع، التي تساهم في جعل المجتمع عبارة عن مشروع (شَحْت) على أبواب أهل المال أو أهل السلطان.
هل بالإمكان أن ينصرف الهم الوطني عن التركيز في شكليات ومظاهر التخلف، الذي يعاني منه اليمنيون ليغوص في جوهر معاناة هذا الشعب، وليبحث عن سبل علاج لحالته النفسية بوسائل تبعده عن ميادين العنف والإرهاب والثأر والجريمة، وتقربه من إدراك معاني الجمال النفسي والمعنوي، وتخاطبه بلغته البسيطة من دون تكلف ولا حواجز؟؟
هل يمكن أن تنتج ماكنة المجتع الثقافية بردوني ثاني وثالث ورابع؟ أم ستنتج حوثي ثاني وثالث؟!
في دوامة غياب الدولة المستقرة يظل المال حبيس خزائن الأغنياء والحكام، وعادة ما يتم تهريبه خارج البلاد، وهو ما يؤدي إلي ازدياد البطالة وكساد السلع.. هذه الحالة تنتج مزيداً من الشباب المحبط وأرباب الأسر الغير مستقرين نفسياً، وليس أمام الطاقة المجتمعية إلا أن تنطلق في مسارين: المسار الأول هو مسار الجماعات المسلحة، التي تحوّل الدين إلى طلاسم يتم من خلالها السيطرة على جنوح وعنفوان الشباب وتوجيهه إلى الوجهة التي تريديها كما يفعل الحوثيون والقاعدة. والمسار الثاني هو مسار الجريمة المنظمة والغير منظمة، التي تعصف بأحياء الفقراء، وكل هذا يجعل المادة هي سيدة الموقف..
وأمام كل هذا تظل الثقافة هي الخاسر الوحيد من تراكم العبث المنهجي بوعي وأخلاق اليمنيين، وكم أتمنى أن يعي كل القادة السياسيين ورجال المال والأعمال أن بإمكانهم أن يصنعوا شيئاً جميلاً لبلدهم لو أنهم توجهوا بجزء كبير من اهتمامهم إلى تطوير وسائل مخاطبة المجتمع عن طريق الفنون، وجعلوا الثقافة هي محور اهتمامهم ليكونوا صانعي تغيير حقيقي لا مشعلي صراعات عبثية تجعلنا ندور في حلقة التخلف المفرغة.. نحن بحاجة إلى الرسام والشاعر وعازف البيانو والفنان الكوميدي أكثر من حاجتنا إلى السيد والشيخ والعسكري.. هذه هي الحقيقة.
المقالات الاقدم:
أحدث المقالات - من جميع الأقسام:
مقالات متفرقة:
المقالات الأكثر قراءة:
- منظمة الصحة العالمية : 10 آلاف قتيل و60 ألف جريح حصيلة حرب اليمن - 2018/12/10 - قرأ 127117 مرُة
- اليمن .. معركة جديدة بين قوات هادي والحراك الجنوبي في شبوة - 2019/01/09 - قرأ 26806 مرُة
- غريفيث لمجلس الأمن: هناك تقدماً في تنفيذ اتفاق استوكهولم رغم الصعوبات - 2019/01/09 - قرأ 26098 مرُة
- تبادل عشرات الأسرى بين إحدى فصائل المقاومة اليمنية والحوثيين في تعز - 2016/06/01 - قرأ 20467 مرُة
- المغرب يكشف عن "تغير"مشاركته في التحالف - 2019/01/24 - قرأ 17775 مرُة