بعد إحدى وستين شمعة من عمر الأستاذ النوراني عبدالملك الشيباني، أطفأت رياح الآجال لهيب جسمه، لكنها لم تطفئ توقُّد فكره، وتوهُّج دعوته، وتألق كتبه!
لقد تآكل قلبه، من فرط حساسيته وتدفق عواطفه الجياشة، وتألم من كثرة توجعه على أمته الكسيحة ودعوته المغدورة. وتوجع فؤاده من تتابع فجائعه على دينه الذي تُشن عليه الغارة، وعلى وطنه الذي تتناوشه سيوف الغدر، وسهام الأجرام، وتنشب أظفارها فيه ذئاب (الموت) المخاتل وكلاب (التمزيق) اللاهثة وثعالب (الانتقام) الأسود!
لم يستطع قلبه أن يتحمل أوجاع الثقافة ومآتم الفكر الجاد في هذا البلد الذي يمتلك قدرة هائلة على إشعار المفكرين والمثقفين بالغربة والمهانة وبالمرارة التي يشعر بها الأيتام على موائد اللئام!
في هذه المقالة سننزف قطرة ألم، ونذرف دمعة وفاء لهذا الرجل الذي واجه الموت مبتسماً كالليث ومات واقفاً كالنخلة.
إنه الطود الشامخ، والمؤرخ الراسخ، الرجل الإيماني عبدالملك الشيباني، تغمده الله بواسع رحمته، وطيّب ثراه، وصبَّر أهله وذويه ومحبيه، وأعلى مقامه في حياة الخلود.
* التعرُّف والتعلُّق
كنتُ طالباً في أول ثانوي بمعهد معاذ بن جبل في الجند، عندما جاء رجل مختلف، لم يكن ذا لحية طويلة، ولم يكن ذا قسمات جادة متجهمة، بل كان صبوح الوجه، باسم الثغر، طلق المحيا..
ثم إنه لم يستخدم الأسلوب الخطابي في محاضرته، ولم يحدثنا على طريقة الوعاظ، ولم يأخذنا إلى عوالم الغيب وآفاق الموت، ولم يسحبنا إلى دار الآخرة!
لقد حدثنا عن الدنيا التي يجب أن نتعبد الله بالعيش فيها، وعن الحياة التي يجب أن نصنعها، وعن المؤامرات التي يجب أن نفقهها، وفي تلك الأثناء حدثنا عن المخابرات الصهيونية، وبدأ بسؤالنا عن اسمها، وكنت شديد الحياء كشدة حرصي على الحياة، ولكني عندما رأيت أن أحداً من الطلاب لم يُجب، رفعت يدي، ثم قلت: الموساد، فأثنى عليّ الأستاذ الذي لم أعرفه إلا في ذلك اليوم، لينزل عليّ ثناؤه ومحاضرته وقوداً أوقد جمور همتي، وأشعل شموع إرادتي، وأضاء دروب حركتي!
وبعدها سمعته في كثير من الندوات والرحلات والمخيمات، يطوف في عوالم الثقافة ويحلّق في آفاق الفكر، يرسي مقاليد الثوابت، ويغرس شتلات الحقيقة، ويسقي مسائل الفكر الأخضر المتجدد، بعيداً عن التكلف والتقعر، مستعيناً بموسوعة من المُلَح والنكت والطرائف وحدائق من الشعر والحكمة والأمثال وأطايب الكلام.
* المجدد الضحوك
كان يحب المرح، ويجيد صناعة الضحك ورسم الابتسامات على (الثغور) ومنها ينطلق لصناعة الرجال الذين يحرسون (الثغور) الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، في صرح أمتنا وفي جدار وطننا الحبيب.
بريشة البسمة يرسم الحزن المفجر للطاقات، وبقلم الإضحاك يكتب الإرادة الصلبة في قلوب الشباب لصناعة الحياة، ويرسم خارطة الطريق النهضوي الكفيل باستنقاذ الأمة من الوهن والغثائية، وتحريرها من أغلال التقليد (التاريخي)، رغم كونه مؤرخاً في الأساس، ومن قيود التتبيع (التغريبي)، محاولاً نقلها من الهوامش إلى المتون، وما فتئ ينفخ فيها من روحه، حتى تدب في جسم عصريتها روح أصالتها!
ورغم معرفته بأوجاع أمته، ومآسي كثير من أقطارها، فقد كان متوهج الأمل ، متوقد العزيمة، متجدد الرجاء، شديد التفاؤل، حتى أنه كان يكره سماع أناشيد الغربة، وأغاني المآتم، وألحان الموت!
لقد ظل يجفف منابع ثقافة الفقر والفاقة، وأقاصيص الغربة والغرابة، ويحارب طقوس التجفف والتخفف، ومظاهر التعبد الأجوف والتزهد الأعمى، واتجاهات الانسحاب الأخروي، داعياً بكل قوة إلى الحضور في ميادين استعمار الأرض وصناعة الحياة.
ولقد ساهم في وضع بذور الثقافة التجديدية في هذه الأرض الجُرُز بسبب كثرة التقاليد، وكثافة غيوم الرتابة التي تحجب شمس الحقيقة، ولا تُنزل غيث الرحمة!
ولثقته ببوصلة فكره، وصدق طويته، وعدالة قضيته، فقد كان واضحاً كالشمس، ومن شدة وضوحه لم يره كثيرون!
لم يعرف النفاق، ولم يتلبسه الرياء، بل لم يتسربل بأثواب التصنُّع والتجمل والتأنق، فقد كان باطنه مثل ظاهره، كما قال رفيق دربه الأستاذ أحمد القميري..
ولهذا كان يؤثر الدخول على الشباب من أبواب الضحك ونوافذ الابتسامة، وكان يحب الصحابي نعيمان رضي الله عنه، ويحب أتباع نعيمان في كل مدينة يمنية ينزل فيها محاضرا.
* ابتسامة الرحيل إلى الجليل الجميل
ولكثرة ضحكه فيما عرفته عنه، فأنني أشك في أن يكون قد بكى عندما ولد كعادة كل الناس، ولاقترابي منه في الأيام الأخيرة من عمره، فقد رأيته قاعداً على فراش المرض راضياً، ويوجه آلام السقم ضاحكاً، حتى أنه مات مبتسما!
نعم مات مبتسما، وأسنانة البادية، وطلعته البهية، ووضاءة وجهه الرضي شهود على ذلك، وقد شاهد هؤلاء الشهود كل من رأى الأستاذ وهو مسجى بين محبيه الذين كانوا يبكونه وهو كعادته لا يكف عن الابتسام!!
لكنه اليوم كان يبتسم وحده، مع أنه كان إذا ابتسم ضحك الآخرون، وإذا ضحك قهقه الحاضرون!
فلماذا يا ترى ابتسم الأستاذ، بينما عزرائيل ينتزع روحه؟
لا بد أن من عاش على شيء مات عليه، ولا بد أنه كان كامل الوعي، حيث أدرك أنه قادم على الرحمن الذي تلَّبس بجلاله وتسربل بجماله، فكيف لا يبتسم وهو قادم على الجليل الجميل، مع عشقه الشديد للجمال؟! وكيف لا يبتسم وقد رأى الملائكة التي تتنزل بين أيدي المؤمنين وهي تبشره بالحسنى – إن شاء الله – وتطمينه بطوبى؟!
ومن المؤكد أن رؤيته لملائكة البشارة قد ملأته طمأنينة وزادته ثقة ويقيناً بأن الموت للمؤمن بطاقة تسريح من الواجبات والتكاليف والأوجاع والأسقام الدنيوية، وليس بطاقة إعدام أبدي، كما يقول بديع الزمان النورسي "وأنه نافذة إطلالة إلى عالم النور الذي تهفو إليه الروح، وتبتهج به القلوب!
فيا من أضحكنا في حياته، إن ابتسامتك في موتك هي عزاؤنا فيك، فقد سكبتْ في قلوبنا ماء اليقين الذي لا يجف بأن الله هو الذي أضحك وأبكى، وأنه ما رسم تلك الابتسامة في ثغرك الوضاء عند موتك إلا ليضحك في حياتك الأبدية وجنته السرمدية.
اللهم إنك تعلم أنه كان يحب المؤانسة فأنس يا الله وحشته، وإنه كان يحب الضياء فأنِر يا الله قبره، وأنه كان يعشق العيش في بحبوحة الجماعة ويتلذذ بمجالسة الأخلاء ومنادمة الأحباء، فأجلسه في مجالس النعم الإلهية والبحبوحة الملكوتية مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
المقالات الاقدم:
أحدث المقالات - من جميع الأقسام:
مقالات متفرقة:
المقالات الأكثر قراءة:
- منظمة الصحة العالمية : 10 آلاف قتيل و60 ألف جريح حصيلة حرب اليمن - 2018/12/10 - قرأ 127117 مرُة
- اليمن .. معركة جديدة بين قوات هادي والحراك الجنوبي في شبوة - 2019/01/09 - قرأ 26806 مرُة
- غريفيث لمجلس الأمن: هناك تقدماً في تنفيذ اتفاق استوكهولم رغم الصعوبات - 2019/01/09 - قرأ 26098 مرُة
- تبادل عشرات الأسرى بين إحدى فصائل المقاومة اليمنية والحوثيين في تعز - 2016/06/01 - قرأ 20467 مرُة
- المغرب يكشف عن "تغير"مشاركته في التحالف - 2019/01/24 - قرأ 17775 مرُة